"إذا غادرتم حافظتم على حياتكم، ويصبح سقوط المدينة حقيقة أكيدة، تشكّل نهاية ملحمة المقاومة... أمّا إذا قرّرتم أن تبقوا، فاعلموا شيئًا واحدًا، وهو أنّ الأبطال يموتون ولا يستسلمون". من هنا أتى ربيع ١٩٨١، وكانت حرب زحلة ملحمة صمود سُطرت قبل شيء بخيار "اللّا ركوع"، بقلوب لا تعرف الإحباط، وبصرخة وبضعة مدافع.
أُطلق على الزحلة ألقاب عديد أبرزها "عروس البقاع" و"عاصمة الكثلكة" و"مدينة الكنائس". وبما أنّها كانت تحمل أهمية الإستراتيجية بالنسبة إلى سوريا، كونها تقع على طريق بيروت – دمشق، هدّد هذا الأمر خطّ الإمدادات السورية، فضلًا عن وقوعها على سفح جبل صنّين الكاشف لهضبة الجولان والأراضي السورية المجاورة، وكونها أكبر مدينة مسيحية في الشرق الأوسط، وبعد دخول الجيش السوري إلى لبنان، انتشرت قوّاته بشكل كثيف حول المدينة وراحت تنكّل بأهلها المسالمين العزّل. ومع حلول فترة الميلاد من العام ١٩٨٠، بدأت تتّضح معالم المرحلة القادمة على زحلة، بعد سلسلة أحداث أدّت إلى اشتباكات عنيفة بعد فرض حصار عسكريّ لا إنساني.
في مطلع العام ١٩٨١، راحت قيادة "القوات اللبنانية" تدرس وضع زحلة وكيفيّة فك الحصار عنها. ومع نهاية شهر آذار، بدأت القوات السورية بقصف مركّز وعنيف على النقاط الحيوية في المدينة، من المستشفيات إلى الكنائس والمؤسسات. فافتُتحت حرب زحلة على مصراعيها في الأوّل من نيسان بكلّ ما أوتي الجيش السوري من قوّة ودعائم، لا سيّما الراجمات والمدافع الدبابات والمروحيات. "اعرفوا أهمية الدور يلي عم تقوموا فيه إنتو وقاعدين بهالتّعتير هيدا، واعرفوا إنّو مصير لبنان واقف على هالكم مدفع يلّي هون". بهذه الكلمات شجّع الشهيد بشير الجميل مقاتلي "القوات اللبنانية" المرابطين في زحلة مع بداية المعارك...
منذ ذاك اليوم دارت معارك ضارية دامت ثلاثة أشهر، وتزامنت مع جولات مفاوضات سياسية على الصعيدين المحلي والإقليمي. فاستطاعت من خلالها "القوات اللبنانية" ترجمة بطولاتها الميدانية وصمودها على مداخل المدينة إلى انتصار سياسي. بعد ثلاثة أشهر من الدم والعرق، خرج من زحلة ٩٧ مقاتلًا، في حين توقّع المراقبون أن يكون عددهم بالآلاف، وتوجّهوا إلى المجلس الحربي تحت الورد والأرز، واستُقبلوا كأبطال سخروا من الحسابات العسكرية وموازين القوى.
نتذكر هذه المعركة اليوم، لأنّ ما بين زحلة في ١٩٨١ ولبنان في ٢٠٢١، أوجه تشابه عديدة؛ فالوضع الذي وصفه بشير يومها ب "التّعتير" هو ذاته، وعلى الرغم من أنّ "التعتير" السابق فرضته دبابات الأسد، إلا أن "تعتير" اليوم ففرضته سلطة حاكمة تمسّكت بكراسي الفساد والمحاصصة ومحاور السلاح والبطولات الوهمية.
اليوم كما في معركة زحلة، معركتنا اختيارية. نستطيع وبكل سهولة ترك الميدان ورفع الأيادي والاستسلام للواقع المرير، لكنّنا ندرك أهمية الدور الذي نلعبه. فإذا كان مصير لبنان يومها يقف على بضعة مدافع، فهو اليوم يقف على حناجر كثيرة تنطق بحروف الحقّ وبضعة قلوب تنبض بألحان الحرية.
تبدلت الجغرافيا والأدوات، لكن روح الصمود تبقى ذاتها، تسلح بها بضعة رجال في زحلة؛ أمّا اليوم فيحملها كل شباب لبنان الثائر على الاحتلال والفساد وسياسات الأمر الواقع. كما قلنا بالأمس "عزحلة ما بفوتوا" وهكذا كان، نقول اليوم على لبناننا الحلم "ما بفوتوا". سنصمد كما صمدوا، سننتصر كما انتصروا وسنبني وطنًا يليق بتضحياتهم، وطن الإنسان والرسالة.
وطن... يليق بلبنان.