حاملةً ابنها بين يديها، رصاصة طائشة في رأسها بسبب خلاف بين تجار مخدرات في مخيم شاتيلا تنهي حياة الأم وتطرحها أرضًا. هذه كانت من آخر الحوادث التي تنتهي فيها حياة الأبرياء في وجه الخارجين عن القانون وحاملي السلاح لأسباب ما هي إلا تافهة في بلد أصبحت المعيشة فيه غالية، أما حياة الإنسان فرخيصة! تعيد هذه الحوادث إلى الواجهة قضية السلاح المتفلت وأهمية قيام الدولة وتحمّل مسؤولياتها تجاه هيبتها أولًا ومواطنيها أيضًا. إنها المشاكل التي تهدّد الإنسان وحياته وتقف الدولة عاجزة أمام حلّ اللغز ودخول مغاور تجّار الأسلحة، من سياسيين ومدنيين محميين، لوضع حدٍ لـ"حكاية بريق الزيت"...
سلاح يتحكّم بحياة الإنسان ومصيرها؟
ما يشهده لبنان بسبب هذه الظاهرة لا يتحمّله لا عقل ولا منطق. أسلحة منتشرة في المناطق اللبنانية من دون حسيب أو رقيب. خلاف على أحقية المرور، وخلاف على بعض الأمتار بين حدود أرضين، وخلاف على الميراث وأسباب كثيرة غيرها تدفع الإنسان في لحظة إلى إطلاق النار وإنهاء حياة أفراد، مقتنعًا ربما أن بهذا المسار انتصر وحقّق مبتغاه.
أصبح حمل السلاح واستخدامه ضمن ثقافة الحياة لدى البعض من الشعب اللبناني. يفتخرون لحملهم قطعة سلاح من دون مبرّر، فهل أصبحت موضة يعتمدونها الشباب للمفاخرة وتسجيل النقاط بين بعضهم وفي مناطقهم؟ السلاح يفرّق ولا يجمع، وهذه من أهم الدروس التي يجب أن يتذكرها كل لبناني من الحرب اللبنانية التي فرّقت الأخ عن أخيه، والرفيق عن رفيقه والجار عن جاره... بالطبع ومن دون أيّ شك، لا يوفّر السلاح بوجوده المتفلّت أيّ من مقومات لحياة مشتركة بين المواطنين، إذ لحظة من هذه الحياة قد تتحوّل إلى كابوس لا لسبب وجيه، إنما لأن شخصًا قرر أن يكون الحل بإشهار سلاحه واتخاذه القرار بإنهاء حياة فرد آخر.
إنها ثقافة الموت لا ثقافة الحياة. عقلية لبنانية قديمة ومستجدة تجعل الإنسان في عداد المجرمين، وتفكّك المجتمع وتجعله تحت رحمة أشخاص يعتبرون أنفسهم محظوظين بوجود السلاح "على خصرن"...
كما في الدولار... كذلك في السلاح!
يعيش لبنان حاليًا أصعب مرحلة بتاريخه الحديث نتيجة الأوضاع الاقتصادية والمعيشية والاجتماعية. وجعلت السوق السوداء الليرة تخسر 80% تقريبًا من قيمتها أمام الدولار. وبالمبدأ ما يحصل في سوق الدولار حاليًا، موجود منذ سنوات عديدة في سوق السلاح. مجموعة أشخاص "مدعومين" يتجارون بالأسلحة؛ فهذا باب رزقهم ومصدر عيشهم! سلاح مهرّب عبر الحدود الشرعية وغير الشرعية، وأبواب المحاصصة والفساد مفتوحة على مصراعيها في هذا الملف، والمهم جمع المال وكسب السلطة؛ أما حياة الناس ومصيرهم فهو آخر الهموم.
والتفصيل الأصغر ربما في هذا الملف هو وجود السلاح بشكل متفلت عائد إلى سبب رئيسي، أيّ خروجه عن إطار شرعية الدولة ومؤسساتها، وموزّع بين أيدي حزب يحمل شعار "المقاومة" وجماعات مسلحة في الأحياء والشوارع، إضافة إلى العائلات والعشائر.
لا يمكن حصر هذه الظاهرة بمناطق معينة في لبنان فقط، لكنها في الكثير من الأحيان تحتّل مناطق المشهد الأبرز والأوّل في هذا المسار. فكم خبر وخبر يصل عن خلافات عائلية استخدمت فيها الأسلحة الثقيلة والمتوسطة، وسقط قتلى وجرحى بسبب هذه الخلافات والحوادث وتدخّل الجيش لحلّها.
ولا بدّ من ذكر نقطة أساسية تسلّط الضوء على القانون اللبناني في هذا المجال؛ فأي شخص يستطيع أن يشتري سلاح صيد أو قطعة سلاح حربي من أي متجر من دون مساءلة أو ضوابط. وهذا ما يفتح النقاش واسعًا حول ضرورة تعديل القانون، كإحدى أبرز الحلول للحد من ظاهرة فلتان السلاح.
القانون لو ينفّذ!
في دولة كلبنان، غاب عنها القانون وحلّ مكانه منطق الزعامات والميليشيات. وللحد من هذه الظاهرة التي تتمدّد يومًا بعد يوم في المجتمع اللبناني، المطلوب قوانين جذرية. واستنادًا على القانون اللبناني المتعلق بالأسلحة والذخائر والصيد، تنصّ الفقرة الأولى من المادة 25 على ما يلي: "لا يرخّص لأحد باقتناء أو حيازة أو نقل المعدات والأسلحة والذخائر الداخلة في الفئتين الأولى والثانية في حال اضطراب الأمن أو في الحالات المنصوص عليها في الفصل الثاني المتعلقة بصناعة هذه المعدات وتجارتها وذلك ضمن الشروط المعنية بها".
أمثلة عن الفئتين الأولى والثانية: البنادق والرشاشات والمدافع والذخائر والقذائف والخرطوش والقنابل على أنواعها، والأجهزة والأعتدة المخصصة للعمليات الحربية كافة.
مركبات القتال والدبابات والسيارات المصفحة ونافثات اللهب والمدرعات والنسافات والمراكب والبواخر الحربية البحرية، وطائرات القتال والقانصات الجوية والمناطيد والطائرات الخفيفة أو الثقيلة المعدة للحرب على أنواعها، والأبراج والقواعد والقطع المصفحة أو غير المصفحة المنفصلة".
كما تنصّ الفقرة الأولى من المادة 75 على أنّ "كل مَن أقدم على إطلاق النار في الأماكن الآهلة أو في حشد من الناس، من سلاح مرّخص أو غير مرخّص به يعاقب بالحبس والغرامة، ويصادر السلاح في جميع الأحوال". وما أكثر هذه الجرائم التي حصلت في وضح النهار والدولة في غيبوبة!
وتمنح وزارة الدفاع الوطني رخصة حمل السلاح، وبحسب الفصل الثاني في المادة 7، "تعطى الرخصة للبنانيين البالغين من العمر إحدى وعشرين سنة وبعد التأكد من سالمتهم من الأمراض العقلية ومن عدم صدور حكم يمنعهم من حمل السلاح أو حكم من أجل الجرائم الماسة بأمن الدولة".
لا يمكن أن تبقى هذه الشروط كما هي في القانون، ولا سيّما في بلد كلبنان؛ شروط أقل من عادية تسمح لأي شخص أن يحمل السلاح، وبالتالي تأذن له بالحرية والتصرف به. وهنا تكمن الخطورة.
وفي هذا السياق، تنص المادة 184 من قانون العقوبات اللبناني على ما يلي: "يعد ممارسة حق كل فعل قضت به ضرورة حالية لدفع تعرض غير محق ولا مثار على النفس أو الملك أو نفس الغير أو ملكه، ويستوي في الحماية الشخص الطبيعي والشخص المعنوي. إذا وقع تجاوز في الدفاع أمكن إعفاء فاعل الجريمة من العقوبة في الشروط المذكورة في المادة 228". وقد اعتبرت المادة 228-عقوبات أن "إذا أفرط فاعل الجريمة في ممارسة حق الدفاع المشروع لا يعاقب إذا أقدم على الفعل في ثورة انفعال شديد انعدمت معها قوة وعيه أو إرادته".
كما كل قطاعات الدولة ومفاصلها، تتحكم الوساطات ونفوذ المسؤولين، ويشكّل قطاع السلاح وإعطاء التراخيص نفقًا طويلًا من الفساد والمحسوبيات إكرامًا لأزلام السلطة وتحقيق المكاسب السياسية تحضيرًا لشراء الأصوات وصولًا إلى الانتخابات.
الخارج عن القانون... حياة رفاهية على جثة الدولة
لا شك أن القانون، لو يُطبّق بشكل عادل، لكان واقع لبنان ومسار حياته وأساس بناء دولته على السكة الصحيحة. لكن مع وجود أشخاص خارج القانون وهاربين عن وجه العدالة، يشكلّون جماعات مسلحة لحماية أنفسهم من الدولة والجيش. إنه بلد التناقضات.
تأخذ مسألة الأمن في لبنان حيزًا أساسيًا من مسار عرقلة قيام الدولة الفعلية والقوية والباسطة سلطتها على الأراضي اللبنانية كافة من دون استثناء. فيشكل "اللاعبون الكبار" بجناحيهم السياسي والعسكري عائقًا أمام بناء الدولة، ولا يكتفون بـ"المقاومة" وتوجيه سلاحهم إلى الخارج، لأنّ سلاحهم ورقة ضغط السياسية في الداخل وفق معادلة "بالسلاح تتيسّر أمورنا". أما المطلوبون إلى العدالة، فهم جماعات تحمي ظهرها بـ"اللاعبين الكبار"؛ متسلحون مستعدون لقتال شرعية الدولة المتمثلة بالجيش اللبناني دفاعًا عن سلطتهم وأموالهم المشبوهة ورزقهم الحرام.
مجموعات لا يهمها إلا مصالحها. ترقص بسلاحها على جثة الدولة!
السلاح واستخدامه بنظر علم النفس
أشارت رئيسة دائرة المحللين والمعالجين النفسيّين ريما بجّاني إلى أن "ثمّة عقلية اللبنانية تستدعي الفرد في المجتمع إلى التوجّه نحو خيار شراء السلاح وحمله"، مضيفة أن "الإنسان ابن بيئته يعيش ضمن نظام معيّن ويلعب الدور المناسب. لكن مع توجّه الفرد إلى نظام الأمن الذاتي وشراء السلاح فتكمن بالطبع ظروف معينة أجبرته على ذلك وقد تكون طبيعته الشخصية دفعته إلى حمل السلاح، ويكون الشخص على استعداد لحمل السلاح وشرائه واستخدامه".
ولفتت إلى "وجود منهجية معينة تتيح للإنسان السير بهذا الموضوع. فيتجّه الفرد في حال انعدام الاستقرار الأمني واستباحة الأمن في بلاده كلبنان وغيره من البلدان، إلى الأمن الذاتي إما اعتمادًا على القوانين التي تسمح باقتناء السلاح أي بطريقة شرعية أو غير شرعية كوجود حزب الله في لبنان. فيحاول "الحزب" إيهام الناس بأن السلاح ضروري ومهمّ ويمنح القوة. وبوجود حزب الله، ثمّة مجموعة من الأشخاص قادرة على فرض سلطتها من خلال "شرعية" حصلت عليها بما يسمى "المقاومة"، وتضم تحت عباءتها أفرادًا لا يمتلكون منهجية المقاوم أو العقلية التي تفيد باستخدام السلاح في مكان واحد ومحدّد. كما تستفيد من هذه السلطة لفرضها خارج إطار المنظومة المسموحة لها، بسبب عدم الثقة في النفس أو لفرض نفسها على الآخرين".
وأردفت بجّاني أنّ "الشخص الذي يقتل في أغلب الأحيان يكون في حالات اضطراب نفسي. وكثيرة هي الأمثلة التي تؤكد هذا السيناريو كالأشخاص الذين يتأثرون بالألعاب الإلكترونية. ففي هذه الحالة ساعدت اللعبة الشخص في عملية القتل، مع وجود النية لديه في للقتل". وتابعت "في الظروف الحالية التي يمر فيها لبنان وبوجود عمليات السرقة والنشل، يلجأ بعض الأشخاص إلى حمل السلاح وحتى استخدامه دفاعًا عن النفس".
وفي مسألة الدفاع عن النفس، ذكّرت بجاني أن "شباب لبنان في الحرب اضطروا إلى الدفاع عن أنفسهم بوجود الفلسطيني ومحاولته لاستيلاء على البلد. وهنا نتكلّم عن غريزة الانتماء والبقاء، أي أن المقاتلين في الحرب الذين حملوا السلاح من دون تدريب، تحركوا ودافعوا بسبب انتمائهم إلى الوطن وعدم السماح لأحد بالسيطرة على وطنهم وتهجيرهم. وصولًا إلى أيامنا هذه لأنّ من واجب اللبنانيين اللجوء إلى الطرق القانونية للدفاع عن النفس، لكن بسبب الظروف الأمنية وغياب الثقة بالدولة، هذا الحل لا يحصل. وانطلاقًا من علم النفس، حين يفقد أي شخص الثقة بالأطر القانونية أو الطبيعية بالدفاع عن النفس، يلجأ من منطلق الحفاظ على الذات إلى الأطر غير القانونية للدفاع عن النفس. بينما تكمن الخطورة أيضًا في استخدام السلاح بشكل مفرط، من قبل أشخاص غير مؤهلين نفسيًا وعقليًا لهذا الموضوع، لا سيّما إذا في حال ضعف في الشخصية وغياب النضوج وبعد النظر".
بجّاني قائلةً إنّ "استخدام السلاح الحربي يُعتبر "show off" و"عرض عضلات"، أي يتباهى الفرد بسلاحه ويخرج حكمًا من مرحلة الدفاع عن النفس".
الرصاص... في الحزن والفرح
في الأفراح والأحزان، لم يجد اللبنانيون إلا السلاح والرصاص وأحيانًا القذائف، للتعبير عن شعورهم في مثل هذه المناسبات، فيجعلون السماء تمطر رصًاصًا ابتهاجًا أو حزنًا. إنها ثقافة البعض من الشعب اللبناني الفخور بها التي يسرد عنها مغامرات من دون التفكير، ولو للحظة، بأن رصاصاته الابتهاجية أو الحزينة ستصيب أشخاص، همهم الأول والأخير أن يعيشوا بكرامة لا أن يكون همهم كيفية حماية أنفسهم وأهلهم من فرح وحزن الآخرين. إنها العادة الأخطر في المجتمع اللبناني.
لا مجال لما يحصل في بلد العجائب والغرائب أن يستمر على ما هو عليه. دولة الحلم والمؤسسات والمواطن والعدالة والمساواة والكفاءة، لا تستطيع الإبقاء على ظاهرة السلاح المتفلت، إضافة إلى ظواهر أخرى لا تجعل من الدولة إلا بناء مهدد بالسقوط. وفي ظلّ وجود السلاح المتفلت وغياب المعايير والقرارات لضبطه وتمسك كل مجموعة بسلاحها، ستكون الرحلة الأخيرة لسيادة الدولة والقضاء على ما تبقى من أساسها. فوحده القانون يستطيع حماية الدولة وأبنائها ويكون البناء الأساس للوصول إلى جمهورية قوية قادرة وفاعلة.