فقرة "رفاقي الطّلّاب" من العدد ٩٠ من مجلّة آفاق الشّباب
رفيقاتي رفاقي الطلاب،
أكتب إليكم اليوم، وأنا أعرف عمق الأزمة التي تضرب لبنان وتجعل البقاء فيه ضربًا من الجنون الموصوف.
تتحكّم في مصير وطننا اليوم، مجموعة من الفتية الذين لا يفقهون لا الوطنية ولا التاريخ ولا صناعة المستقبل. مجموعة محترفي بناء صفقات لا بناء دولة، ومجموعة هواة لا يعرفون شيئًا عنكم أو أحلامكم أو آمالكم، وكل ما يبرعون فيه هو تعيينات زبائنيّة وأفكار عقيمة ومحاصصة رديئة تشبه حاضرهم وماضيهم ولا تلامس ما ترغبون فيه.
أكتب إليكم وأنا أعرف جيّدًا عمق المعضلة الأخلاقية التي تعصف في أذهانكم، فالأمل في البقاء في هذا البلد يتراجع يومًا تلو الآخر، والوقت يعبر في رزنامة أيّامكم من دون هوادة، وأبواب الهجرة تكاد تكون الحلّ الوحيد أمام بعضكم.
وأعرف أيضًا، أنكم لا ترغبون في الرحيل. وعلى الرغم من مصائب لبنان العديدة، إلّا أنكم تحملون في جيناتكم ما يجعلكم تتمسّكون في البقاء هنا. وهذه المعضلة هي أصعب ما ستواجهون في مسيرتكم. ففي الحرب، العدو معروف وواضح. وفي النضال السري، البوصلة واضحة. وفي الثورات نعرف كيف نقاوم. أمّا في حالة فقدان الأمل، فكلّ شيء يبدو ضبابيًا، وكل مسار يبدو غامضًا، والخصم هو الواقع الذي نعيشه كل يوم.
رفيقاتي رفاقي الطلاب،
أكتب إليكم اليوم، لأن كل ما نملكه ونعرفه ونحبه بات في خطر كبير، وكل مسار هذه الجماعة معرّض للخطر، لأنّه بني في الأساس على استمرارية الأمل في البقاء هنا. ففقدان الأمل اليوم، والخروج من المقاومة التاريخية، هو ضرب لمفهوم الجماعة المقاومة. ولا يمكن لنا أو لأي أحد، أن يراقب انزلاق المجتمع إلى هاوية حيث ينعدم الأمل، ويبقى متفرّجًا من دون أن يرفع الصوت على الأقل.
بعيدًا عن العواطف، وعن الرغبة في استرجاع الماضي الذي رسم شخصية الجماعة اليوم، واستعادة محطات المقاومة واستذكار بطولات كثيرة تحتّم علينا الاستمرار في نهج المقاومة، يجب علينا دومًا مقاربة الأمور بخلفيّة منطقية بعيدة عن المشاعر. لم يلد الوضع الاقتصادي الذي يمرّ به لبنان، بسبب ضعف موارده الطبيعية أو عدم قدرة اللبنانيين على الإنتاج أو الابتكار، بل تعود المشكلة الرئيسة إلى أن لبنان بلد منهوب من قبل سلطة سياسية فاسدة، والقرار اللبناني مخطوف من قبل ميليشيا مسلحة عابرة للحدود. أمّا مواجهة العصابتين المذكورتين، السياسية والعسكرية، فتحتاج إلى تطوير مفاهيم أساسية في المنطق العام:
تنطلق الدولة الحديثة من سلطة مكونة من الناس الذين يتولون المسؤولية لخدمة الخير العام. وعندما تُفرّط الدولة في مسؤولياتها، "يحق للشعب أن يستعيد الشرعية من السلطة السياسية، ويعيد تكوين سلطة تشبه الناس"، كما يقول جان-جاك روسو في كتاباته عن العقد الاجتماعي.
وبالتالي تقع مسؤولية تغيير الواقع على عاتقنا؛ فالثورة تحتاج إلى الناس، والانتخابات تحتاج إلى الناس، والتغيير يحتاج إلى الناس. لا يقدر أحد أن يصوّب الوضع القائم إلّا عبر حمل المسؤولية المجتمعية. إنّ شعور فقدان الأمل الذي نعيشه اليوم، هو أحد أسلحة الديكتاتوريات الفعال، يجعل من المواطنين خائبين وراضخين، ولا قدرة لهم على تغيير شيء، فينتصر الطغاة في طحن أحلام الناس.
عبرنا الكثير، ومرّ على هذه الجماعة ظروف أصعب وأشد بكثير ممّا يمرّ عليها اليوم، وقاومت وانتصرت وصمدت بعوامل أساسيّة هي التالية:
أوّلًا، التعلق بمفهوم أن الجماعة أهم من الفرد؛ والقوّة التي تكتسبها الجماعة تحمي الأفراد وليس العكس، إذ إنّ كل انتصار لفرد على حساب الجماعة هو مجد باطل، وكل تألق فردي لا يصبّ في خدمة الجماعة لا يمكن أن يدوم أو يُسفر عن أيّ خير عام.
ثانيًا، تعلق الجماعة بالأرض التي احتضنت أفرادها، ثمّ وحّدتهم ضمن جماعة وحافظت على تكوينها التنظيمي، كما حافظت الجماعة على هويّة الأرض وسلامتها.
ثالثًا، قوّة الأمل في تحقيق الانتصار، إذ لا شيء يعلو العزم والأمل، ولا شيء أضعف من جماعة فقدت الأمل في الانتصار.
رفيقاتي رفاقي الطلاب،
على الرغم من كلّ خيبات الأمل والانكسارات والتضحيات، إلّا أننا لن نفقد الأمل في الانتصار. إن دكتاتوريّاتهم إلى زوال، فيما شعبنا سينتصر لا محالة. فتعاني السلطة السياسية التي خطفت أحلامنا اليوم بعدما تعرّت من كل أوراق التين، وبات الجميع يدرك فعلًا أن طريق الإنقاذ تبدأ برحيلهم والانتهاء من سطوتهم على أيامنا.
أتوجه إليكم لتتمسكوا بلبنان الذي ورثناه وطنًا والذي صنعت منه هذه العصابة مزرعة، لكي نعيده بأيدينا على صورة الوطن الذي به نحلم.
أتوجّه إليكم لتمتنعوا عن الهجرة قدر المستطاع، حتى لو ضاقت سبل الحياة في هذه الأرض، فهي أزمة وستعبر، وليلة ظلماء وسيأتي الفجر، وصليب لكن ما بعده إلّا قيامة. لا قيامة ولا فجر ولا عبور إلا معكم ومن خلالكم.
أمّا للرفيقات والرفاق الذين يغادرون لبنان رغم كل ما سبق، فإن غادرتم للعلم ابرعوا وتفوّقوا وعودوا لبناء لبنان على صورتكم؛ وإن انتقلتم للعمل اعملوا بجهد وتفان في سبيل لبنان ولو في الخارج.
وفي أي فرصة تحين، عودوا إلى هنا! ففي هذه الأرض أهل ورفاق ومستقبل لكم، وسنبقى في انتظاركم ما دام فينا صوت يصرخ. سنصمد هنا، ونقاتل هنا، وننتصر هنا، فهذا الشعب لنا وهذه الأرض لنا. وإن اتّسعت الساحات في الأرض كلها، تبقى ساحات لبنان الضيقة أحبّ ساحات لنا.