ليس انسحابًا إنما هزيمة، لأنها لم تكن وصاية انما احتلالًا. نيسان 2005 ليس سوى وجه آخر لنيسان 1946، والاستقلال الثاني لا يقلّ قيمة عن الاستقلال الأول. ومار نصرالله بطرس صفير ليس سوى خليفة الياس بطرس الحويّك؛ النهج نفسه، العنفوان والكرامة وعشق الحرية. فالأول وقف بوجه فرنسا مطالبًا بفكّ الوحدة مع سوريا ثم عاد وطالب بالاستقلال الكامل للبنان الكبير. والثاني رفض الذهاب إلى سوريا "إلا ورعيته معه"، ثم رفع الصوت سائلًا متى ترحل جيوش الأسد عن أرض لبنان.
وما بين الياس الحويّك ونصر الله بطرس صفير، "سوريتان"، كانت الأولى شقيقة وباتت الثانية دولة احتلال. فقد دخلت القوات السورية لبنان عقب الحرب اللبنانية، لابسة ثوب قوات الردع العربية، ثم ما لبست أن احتكرت الساحة اللبنانية، بتفويض من دول وازنة أخرى ألقت الهم اللبناني على الكتف السوري، لتنشغل بما هو أهم بالنسبة لها. وبعد عدة سنوات من الادعاء ولعب دور حامي اللبنانيين، لاسيما من الفورة الفلسطينية آنذاك، أخرج الأسد مخالبه، وبدأ معاركه مع اللبنانيين، وأصرّ على الادعاء أنه يريد حمايتهم. ومن أهم أشكال الحماية، كانت "دكّ" الأشرفية وزحلة بالصواريخ والأسلحة وقتل الأبرياء. أما ذروة الاهتمام، فقد كانت باغتيال الرؤساء والناشطين، وسجن القادة الأبطال، وإسكات كل من حاول مجابهتهم. لقد أرادوا لبنان محافظة سورية...
من دخل ملطِخًا يديه بالدم، ما كان ليخرج لولا الدم، وكان الضحية الكبيرة والخسارة العظيمة للبنان، الشهيد رفيق الحريري، مع كل من رافقوه ولحقوا به. قتله نظام الإرهاب الذي مازال يقتل أطفال سوريا، فكانت فاجعة رحيله الصحوة التي كلّلت نضال الشباب اللبناني، وهزّت المجتمع الدولي، وأزالت عن عيني الدول الكبرى الغشاوة التي فرضها الأسد الأب وبعده الابن. ارتفعت الأصوات المطالبة بخروج جيش الاحتلال من كلّ الأراضي اللبنانية، وكان خطاب بشّار الشهير في آذار 2005 الذي أعلن فيه الانسحاب الكامل من لبنان. وبعد شهر تقريباً، وفي يوم 26 نيسان 2005، رحل الجندي الأخير "بلا كرامة" كما كان يقول لي أحد كبارنا.
انسحب السوري وترك عملاءه كما يسميهم البطريرك صفير، والشباب الذي ناضل ليخرجه مازال حتى اليوم ساهرًا ليمنع عودته وبسط سلطته من جديد. يقول البعض إننا استبدلنا السوري بالإيراني، وانتقلنا من احتلال إلى آخر. وأقول لمن يخاف الإيراني اليوم، نحن لم نخرج السوري على باقات ورد، إنما بالدم والعلم، بالفكر والتضحيات، والإيراني سيرحل خلفه، لأن دماء رجالنا مازالت تنبض حرية، ولأن بطريركي الاستقلال الأول والاستقلال الثاني، خَلَفهم بطريرك الحياد. وكلما أراد احتلال أن يجبرنا على الركوع، سنذكّره بقول البشير: “نحنا... لا أنت ولا أكبر منك بركّعنا..."