يمر لبنان بأزمة معيشية واجتماعية وسياسية غير مسبوقة، وليست الأزمات والصعاب بحد ذاتها من شيء غريب على اللبنانيين، لكنّ الوضع الحال هو من أكثر الأوضاع تعقيدًا وصعوبة في تاريخ لبنان الحديث. وكأن الهموم والمصائب التي يعيشها يوميًا الشعب اللبناني لا تكفيه حتى أتى اليوم المشؤوم، يوم الجريمة الوطنية التي ارتكبتها السلطة السياسية الحاكمة بحق شعبها وأهلها وذلك نتيجة إهمالها وفسادها ولامبالاتها.
وقع انفجار بيروت، ودُمّرت شوارع المدينة وضواحيها. غضب شعبي عارم ومحاولات من أهل السلطة للتملص من المسؤولية والعقاب مع تخبط كبير في قراراتها وتصاريحها حتى بدت عاجزة أمام المشهدية المريعة في بيروت. أطاح العجز والتخبط والضغوطات الخارجية والداخلية الكبيرة بحكومة حسان دياب فاتحًا الباب أمام فرصة جديّة جديدة وأخيرة لإنقاذ الوضع في لبنان.
أطلّ رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع على اللبنانيين بعد استقالة الحكومة معتبرًا أن لا أمل بالإنقاذ في ظلّ وجود الأكثرية النيابية الحالية، وأنّ أيّ حكومة ستكون مكبّلة بوجود رئيس الجمهورية وحزب الله وكلّ فريق 8 آذار، وما حصل مع الحكومة المستقيلة سيحصل مع أي حكومة أخرى لأن لا أمل بأيّ تغيير في ظلّ إمساك هذه الأكثرية بمفصال الدولة، وبالتالي لا أمل يُرجى بوجود هذه الفريق على اللبنانيين. كما يجب الذهاب إلى حكومة تحضّر لانتخابات، لذا شدّد جعجع على تشكيل حكومة إختصاصيّة وجديدة وإنتقالية لإنقاذ لبنان على أمل أن يكون للمسؤولين هذه المرة آذان صاغية. وتضمنت هذه الخارطة أولًا، تشكيل حكومة مصغرة جديدة بكل وجوهها حيادية ومستقلة، لأن حكومات الوحدة الوطنية وبتركيبتها الفضفاضة أثبتت فشلها وأوصلت لبنان إلى ما وصل إليه. ومن يطالب بحكومات كهذه، أي حكومات وحدة وطنية أو حكومات أقطاب، لا يريد إلا أن يتمثل سياسيًا ويزيد مفاقمة الوضع الكارثي، كما لا يريد استعادة الدولة لاستقرارها السياسي والمالي؛ من دون أن ننسى هذا النوع من الحكومات لا يمثل تطلعات اللبنانيين المنتفضين منذ 17 تشرين، ولا يمثل تطلعات المجتمع الدولي المتمسك بحكومة مستقلة من اختصاصيين بعيدة عن حكومات الوحدة التي يريدها البعض لعدم استبعاده من السلطة، وهو في وجوده يشكل حصارًا على لبنان بفعل أدواره وأولوياته الخارجة عن الدستور ومنطق الدولة.
ثانيًا، الإصلاحات ثم الإصلاحات التي هي ضرورية لاستعادة ثقة الناس والخارج بلبنان. وتبدأ هذه الإصلاحات بإقفال المعابر غير الشرعية وضبط المعابر الشرعية، ومعالجة ملفات كالكهرباء وغيرها. وينبغي على المجتمع الدولي أن يتعهد ويراقب تطبيق هذه الإصلاحات لأن الشعب اللبناني فقد ثقته بالسلطة الحاكمة وأدرك مدى عجزها وفسادها.
ثالثًا، يجب أن تتعهد الحكومة بتقصير مدة ولاية مجلس النواب الحالي وذلك بسبب فقدانه لشرعيته مع الانتفاضة الشعبية ولأنه لم يعد يلبي تطلعات اللبنانيين. وبالتالي الذهاب إلى انتخابات نيابية مبكرة مسألة ضرورية لإعادة إنتاج سلطة سياسية وأكثرية حاكمة جديدة، والفريق الذي يرفض هذه الانتخابات من الواضح أنه يخشى صوت الناس ويهاب المحاسبة على ارتكاباته.
رابعًا، يجب على الحكومة أن تذهب إلى مجلس الأمن والأمم المتحدة للمطالبة بلجنة تحقيق دولية لأنه لا ثقة بالتحقيق المحلي في ظل وجود سلطة ومنظومة فاسدة مهيمنة على السلطات القائمة في البلد ومنها السلطة القضائية. فلن لن تحاكم السلطة السياسية المتحكمة وتحاسب نفسها؛ وحتى في المسائل والقضايا الصغرى نرى القضاء عاجزًا عن الحسم ويشهد تجاذبات كبيرة. فكيف الحرّي بمسائل كبيرة من هذا النوع؟
خامسًا وأخيرًا، ينبغي على الحكومة أن تتعهد بإعلان حياد لبنان الذي أصبح يتكرّر بشكل ثابت في كل عظات البطريرك الماروني بشارة الراعي، لأن لا خلاص للبنان ولا استقرار ولا إعمار ولا ازدهار ولا حرية ولا عيش مشترك من دون الحياد والخروج من محاور وصراعات دولية لا علاقة لنا فيها ولا مصلحة لنا فيها، ولا ترتب علينا إلّا المزيد من الأعباء الاقتصادية والاجتماعية والخراب والدمار وقمع الحريات، والأهم المزيد من إراقة الدماء البريئة كما حصل في انفجار بيروت.
خارطة الطريق موجودة والإصلاحات معروفة والإجراءات التي يجب اتخاذها واضحة، لكن غير الموجود هو سلطة سياسية حكيمة ومسؤولة ونزيهة، وغير الموجود هو الأولوية لمصلحة لبنان قبل كل المصالح، وغير الموجود هو رجال دولة وأصحاب رؤية ومشاريع وطنية. كل ما هو موجود هو فساد وفشل وإهمال ومصالح ضيقة وعدم الكفاءة. فإلى متى سيبقى يدفع اللبنانيون الثمن؟