بِلسان المعلمات أتحدث... بِعين الطلاب أنظر باكية... وبِحرقة الأهل أترقّب أي حلحلة لملف العام الدراسي القادم الذي لا يمكن القول عنه سوى أنه جهنم للطلاب والأساتذة والأهل معًا. خلال الأعوام الثلاثة المنصرمة كنت معلمة في إحدى أهم مدارس لبنان، حيث كنا نحصل على حقوقنا المادية كاملة مع "حبة مسك" معنوية، إذ كانت الإدارة والمسؤولون بمثابة عائلة لنا، ما وفّر لنا دعمًا نفسيًا لا بأس به. لكن مع اشتداد الأزمة الاقتصادية والصحية في البلد وتدهور سعر الصرف وإلزامنا بالتعليم عن بعد، بدأت مغامرة فريدة من نوعها تفرض شروطًا علينا جميعًا، من طلاب وأساتذة وإدارة.
في بداية الأمر، بدا لنا أنها مسألة أسابيع وتنتهي، وصارت الأسابيع تجرّ الأشهر إلى أن اضطررنا لتنظيم أمورنا وكأنّ الأمر سيدوم إلى الأبد. انهمكنا مطوّلًا بالدورات التدريبية حول التعليم عن بعد، وغصنا في استخدام البرامج الجديدة ورحنا نتأقلم حتى بات الدوام المدرسي 24 ساعة في اليوم، بين التحضير لتقديم الدرس ثم شرحه للطلاب، والتواصل مع الزملاء لمشاركة الاكتشافات اليومية في هذه الحياة الجديدة، وصولًا إلى العودة إلى التدريب للتمكّن مما نفعل، من دون الاتيان على ذكر الواجبات المنزلية والعائلية لكلّ منا.
هذا فيما يتعلّق بالأساتذة، أما فيما يخصّ الطلاب، فمساكين هؤلاء الأطفال الذين اضطروا إلى تحمّل مسؤوليات وأعباء تفوق قدراتهم، فغادروا صفوفهم وملاعبهم وأروقة مليئة بذكرياتهم مع رفاقهم، ليصبحوا "حبساء" في جزء صغير من غرفهم، لا يمكنهم مغادرتها لا للدراسة ولا لغير الدراسة.
كسجناء "الانفرادي" كان الطلاب يجلسون أمام الشاشة الصغيرة، يستمعون إلى شرح الأستاذ، بانتباه أحيانًا، ومع بعض النعاس أحيانًا أخرى، ومع "غطّة" من هنا "وترويقة" من هناك. فلا تنتهي هذه الساعات الطويلة إلا مع الكثير من آلام الظهر والرقبة والرأس، وبالطبع مع عيون أهلكها تأثير الشاشات التي باتت رفيقتها الوحيدة.
والأهل... ماذا أقول عنهم؟ هدفهم تعليم أولادهم، لكن وجودهم الدائم في المنزل خلق مشاكل لم تكن في الحسبان، فاضطرت بعض العائلات إلى الاختيار بين استقدام عاملة للاهتمام بأولادها لتبقى الأم في عملها، أو أن تترك الأم عملها للبقاء والاهتمام بهم. واختلفت الهموم بين من لم يعد قادرًا على دفع تكاليف التعليم، ومن لم يستطع مساعدة أولاده على الفهم لأنه أمّي، وبين من اضطرّ إلى تعليم أطفاله الحرف لأنهم في مرحلة التأسيس التي يحتاج الولد فيها إلى رعاية خاصة.
مع ذكر بعض العقبات المتعلقة بكل طرف من هذا النزاع، لا بدّ من الإضاءة على الكوارث التي تطال القطاع بأكمله. إذ يعاني لبنان مشكلة انقطاع التيار الكهربائي ومعها انقطاع الإنترنت، أو على الأقل تردّي نوعيته بشكل ملحوظ، ما يخلق حالة من عدم الاستقرار لدى طرفَي التعليم، أي الأستاذ والطالب، فلا يكونوا متأكدين إذا كانت ستتمرّ الحصة بنجاح أو لا، أو ربما لن يستطيع الجميع حضورها لأن "موتور الحي مطفي" أو "بس طلع الهوا راح عنا الإنترنت". من العوائق الأخرى التي اعترضتنا، كانت عدم توفّر هاتف أو حاسوب لدى طلاب وبعض المعلمين، أو انعدام الرغبة في خوض غمار هذه التجربة، ما أدى إلى خلافات بين الإدارة والمعلمين.
أعرف جيدًا أن الظروف هي التي فرضت علينا هذا الحصار الدراسي، لكنني متأكدة أن غياب الدولة القادرة على استيعاب الحالات الطارئة والتخطيط لها، ساهم في قطع الأوكسيجين نهائيًا عن قطاع التعليم في لبنان، بالرغم من بعض المحاولات اليتيمة لإنقاذ ما تبقّى منه. أدعو الحكومة الجديدة وأصحاب القرار في هذه السلطة المجرمة، أن يرحموا أطفالنا ويحافظوا على أساتذتنا ويدعموا أهلنا، وإلا لن تبقى للبنان قيمته العلمية، ولن تبقى للبنان جمهورية لتكونوا فيها رؤوساء وحكام.