تتنافس مصادر النّفايات في لبنان على المرتبة الأولى للتلوُّث. كما اشتهر صيف 2017 بكثرة المهرجانات، فاحتفل كلّ شارع بمهرجانه "الدّولي" وتزاحمت فرص العمل على الإنقراض بسبب عدم توجيه الأجيال الصاعدة على الإختصاصات الجديدة التي يفتقدها سوق العمل. إن أوَّل أسباب البطالة في لبنان هو تخرُّج الطلاب من اختصاصات جامعيَّة لا تُلَبِّي طلب سوق العمل اللبناني ولا تسعى إلى معالجة مشاكله.
فماذا نأمل من طالب ثانوي يعتبر المهندس إلهًا والطَّبيب خارقًا؟
أين الفنّ والأدب والإدارة والعلوم الإجتماعيَّة من ذاك الضَّجيج الضال بين الخوذة البيضاء والثوب الأبيض؟ إنَّ انقراض فرص العمل في لبنان يرتبط مباشرة بثقافة الإختصاصات التقليديَّة هذه التي تمنح سوء الإرشاد والتوجيه فرصًا ذهبيَّة لتدمير مستقبل الشباب اللبناني. فعندما يقتظ سوق العمل بالمهندسين والأطبَّاء وترسم ثقافة الإختصاصات التقليديَّة أحزمة البؤس لعاصمة البطالة، سيصطحب كل لبنانيّ جواز سفره ويسير درب الغيوم باحثًا عن المعيشة الشَّريفة والكريمة، عن السَّفينة التي يحلم أن يصبح قائدها!
يمكننا لمس تلك الحالة المُذرية لسوق العمل عندما نصغي إلى الصَّرخة العظيمة التي أطلقتها المدارس الرَّسميَّة والخاصّة هذا العام. فالتَّعليم يفقد شبابه والنبض الحيّ ما ينعكس مباشرة على المستوى التَّعليمي وسلوك الطلاب بشكل خاص وخاصَّة في موادّ الأدب، التاريخ والفلسفة... إن سوق العمل يفتقد لأساتذة المدارس، فأين استمراريَّة التَّعليم بعد رحيل أساتذة اليوم؟
إنَّ القضيَّة الثانية والأهم هي الحاجة الضروريَّة للمُمَرِّضات والمُمَرِّضين. دوَّنت المستشفيات نداء النجدة على صفحات طلبات العمل حيث يهَدِّد سوء التَّوجيه مهنة التَّمريض بالزَّوال، ما ينعكس سلبًا على المجتمع. فإذا انقرض المُمَرِّضون، إنقرضت الإنسانيَّة بجميع أشكالها وانتشرت البصمات الفارغة على جدران المستشفيات التي تنزف الإستمراريَّة المُزَيَّفة. فمن يرافق المريض و يعتني به خلال فترة مرضه غير الممرِّض الذي يساعد الطَّبيب ويضحي من أجل أن يكون مريضه بخير؟
يعتقد البعض أنّ مهنة التمريض هي إحدى المهن الثانويَّة وينصرف هواة التمريض للتخصُّص في الطِّب. فالطالب الذي يقرِّر التَّخصص في التمريض يُقنعه المجتمع باعتناق مهنة الطِّب بحجَّة أن الطَّبيب أهمّ وأرقى من المُمَرِّض.
أنا لا أكتب اليوم لأهاجم فئة معيَّنة من المتخصِّصين، فمَثَل الأطبَّاء والمهندسين ما هو إلا نقل مباشر عن واقعنا التَّقليدي، بل أهاجم ثقافة التَّخلُّف التي ما زالت حتى اليوم تميِّز بين الإختصاصات والمهن وتصَنِّفها بين الأهم والأرقى بحسب ما تأمل غرائزها الإجتماعيَّة أن تراها. أوَجِّه أصابع الإتّهام أوَّلًا إلى الأهل وبالأخصّ أولئك الذين يفرضون إرادتهم على حساب مستقبل أولادهم. ثانيًا، تُوَجَّه أصابع الإتهام إلى المدارس التي لا تُرشد طلابها لتلبية حاجات سوق العمل. وثالثًا، تقوم الجامعات بدور كبير من خلال جولاتها السنويَّة لتوجيه طلاب الصفوف الثانويَّة وعرض الإختصاصات المتوفِّرة في لبنان. أمَّا الخطوة الأهم التي قامت بها الجامعات هذا العام هي العروض والتسهيلات التي قَدَّمتها إلى كل من يرغب التَّخصُّص في التَمريض بسبب النَّقص الملحوظ للممرِّضات والممرِّضين، وذلك لتسليط الضَّوء على أهمِّية المُمَرِّض عمليًّا وإجتماعيًّا و لتشجيع الطلاب على ممارسة المهنة. فلننقذ سوق العمل اللبناني للحدّ من البطالة قبل فوات الأوان!