وسط وطن تعدّدت فيه الحروب والأزمات وكثرت فيه الأمراض، يبقى الجسم التمريضي الصخر الصلب. هؤلاء المناضلون نذروا أنفسهم لتضميد الجراح وبلسمة الآلام. هم لا يقدمون مجرد عمل، بل يحملون رسالة، لحياة مفعمة بالصحة. ملائكة الرحمة يعملون من دون توقف أو حتى تعب في خدمة المرضى، وفي أصعب الظروف وأحلكها. وعلى الرغم من كل التضحيات، إلا أنّ قطاع التمريض يواجه التحديات والمشاكل وحيدًا. فهل في يومهم العالمي مِن سامع لمطالبهم؟
غياب نظام موحد للتدريب هو إحدى أبرز المعضلات التي يواجهها هذا القطاع؛ ويضاف إليه ضعف الحوافز المالية مقابل الجهد المبذول وساعات العمل وطبيعتها، وطبعًا انعدام المساواة بين موظفي القطاع من النواحي كافة. حالهم لا تسرّ عدوًّا ولا حبيبًا، بدءًا من أجورهم المتدنية إلى الفجوة الرهيبة في الدخل بين المستشفيات الحكومية والخاصة. فكيف لنا أن ننتظر عدلاً في حين أن إحدى أسمى المهن على الإطلاق يتقاضى أفرادها بحدود المليون ومئتي ألف ليرة لبنانية، أي ما يوازي مئة دولار أميركي حتى الآن؟ هذا وإذا ما استمرّ سعر صرف الدولار بالارتفاع، فيتدنى عندها معدل أجرهم إلى أقل من ذلك بكثير. وطبعًا كلّ ذلك مقابل مجهودهم الكامل من دون نقصان. وكيف لنا أن نحفّز المتخرجين على امتهان التمريض، في حين أنّ هذه الوظيفة قد أصبحت مجرد تعب من دون أي مقابل؟ فالتمريض أصبح مهنة طاردة، لذلك هجرتها الأجيال الجديدة.
ولا شك بأن دور الدولة على هذا المستوى قد برهن فشلًا كبيرًا في إدارة هذا القطاع، ولا سيّما لناحيتين؛ الأولى تتجسّد في تحسين مستوى المستشفيات الحكومية لتشجيع الممرضين على العمل وردم هوة التفاوت في الأجور بين ممرضي المستشفيات الحكومية والخاصة، والوصول إلى المساواة المطلوبة ضمن أبناء القطاع الواحد. والثانية تتجلّى من خلال تحقيق التوازن بين الأعداد المطلوبة من موظفي قطاع التمريض وأعداد المتخرّجين من الجامعات، ولو بالحد الأدنى، من أجل تجنّب حصول فائض بين العاملين ضمنه، والوصول إلى توازن في الأجور والمخصصات، والحد من هجرة اليد العاملة في هذا القطاع.
لا يحفّز فشل الدولة في إدارة هذا القطاع وحمايته من الانهيار، الممرضين على الاستمرار، بالإضافة إلى التعب النفسي والضغط الكبير في ظلّ جائحة كورونا، ولا ننسى الإهانات والاعتداءات المتكررة التي يتعرضون لها في مواقف عديدة، من دون أن يوفّر لهم أحد الحماية اللازمة. مَن يعمل في القطاع الطبي والتمريضي، هم أهلنا وإخوتنا وأفراد من عائلاتنا. فمَن يحميهم من العنف النفسي والجسدي؟ ومَن يحميهم من دولة فاشلة ومجتمع متشتت افتقد إلى الأخلاقيات؟
تساؤلات تُطرح وما من إجابات في الأفق. يشكّل الجسم التمريضي ركيزة أساسية في المنظومة الصحية ولا يمكن الاستغناء عنه، ومن دونه ستصاب المنظومة بالشلل التام. وللنهوض بمهنة التمريض والارتقاء بمستوى العاملين فيها، ينبغي توفير بيئة عمل مناسبة لهم وتعزيز الحوافز على الأصعدة كافة.
رسالة الجسم التمريضي رسالة عطاء ومحبة ورحمة، وتضحياته مقدسة. لذا أقلّه أن يُقدّر على أعلى مستوى. فهل يأتي يوم يكافأ فيه الممرض على قدر تضحياته؟ وفي ظلّ انتشار آفة اللامسؤولية، هل تنقل عدوة التضحية والإخلاص تجاه المواطنين من الجسم التمريضي إلى الطبقة السياسية الحاكمة؟ حبذا.