ازدوجت الآراء والمواقف بين مختلف الأفرقاء السياسيين وتباينت مع تبدّل الأحداث واختلاف الحقبات والفترات الزمنية، وأمر واحد بقي ثابتاً وهو موقف حزب القوات اللبنانية الذي لم يتأثر بأيّ تغيير خارجي. فالثبات على المواقف المحقّة من شيم الكبار، ومن ثبت على مبدأ مقابل التنازل عن المصلحة الشخصية تسمو مكانته مقارنة بذلك المتشبّث برغباته ومصالحه الخاصة.
وها هو حزب "القوات" يبرهن مجدّداً عزمه وثباته على ضرورة تحقيق المصلحة العامة فقط. ففي لقاء بعبدا في الثاني من أيلول 2019، كان نجمه الوحيد والمميّز رئيس "القوات اللبنانية" سمير جعجع الذي اخترق كل العقبات وشارك بما سمّي باجتماع "اللون الواحد". وقال جعجع حينها ولم يتراجع: "لا يمكن إنقاذ لبنان إلّا بحكومة اختصاصيين مستقلّين".
ومع انتفاضة 17 تشرين، سارع حزب "القوات" ولبّى مطالب الثّوار باستقالة وزراءه الأربعة، وذلك بقناعة تامّة بضرورة كفّ يد السياسيين لفترة محددّة. لتلحقهم الحكومة وتستقيل تنازلاً لرغبة المواطنين، إذ أكّد حينها الرئيس سعد الحريري بأن "المناصب بتروح وبتجي، المهم كرامة البلد". لكنّ الوضع ازداد سوءً مع وصول الرئيس المكلّف آنذاك حسان دياب الذي أدارت الأكثرية الحاكمة حكومته ووزراءه.
تفاقمت الأمور حتى وصلت إلى ذروتها مع انفجار مرفأ بيروت الدمويّ الذي خلّف أضراراً بشرية ومادية ومعنوية جسيمة. وفقدت بيروت المفعمة بالحياة ملامحها الرائعة وجعلت لبنان كالأم الثكلى، يبكي عاصمته المدمّرة نتيجة الإهمال المتعمد، لتستقيل مجدّدًا حكومة دياب.
واللّافت حينها موقف "الجمهورية القوية" الرافض للاستقالة البرلمانية لعدم ترك زمرة من الفاسدين تكمل نهجها على ما تبقى من هذا الوطن المنهار. وأضحى حزب القوات اللبنانية كما دائماً صوتاً صارخاً ينادي بحاجة واحدة وهي "حكومة مستقلّة" قادرة على النهوض بالبلد وانتشاله من قعر الوادي. لكن ما من مجيب، فالأكثرية منشغلة بإيجاد عراقيل لتستّر عن فسادها المستشري.
كما أصبح التدخل الخارجي أمراً ملحّاً، ليأتي ماكرون بمبادرته متمنيًّا تسمية مصطفى أديب، ما دفع بـ"القوات اللبنانية" إلى رفض تسمية أديب انطلاقًا من قناعة "القوات" بأن القرارات المتعلّقة بشؤون البلد تصدر من الداخل بدعم من الخارج وليس العكس. وهذا ما جعل من بعض الخصوم يوجّهون التحية لجرأة جعجع لعدم خضوعه لكلّ ما يملى عليه إلا الضمير الوطني.
بينما دفعت سياسة المحاصصة والمماطلة المتعمدة، بأديب إلى اعتذاره عن تأليف الحكومة، ليعود أدراجه إلى ألمانيا كسفير. فعادت الاستشارات في قصر بعبدا، بعدما رشّح الحريري نفسه مجدّداً على رئاسة الحكومة في الزمن نفسه الذي سقطت فيه حكومته بقوّة الشارع؛ إنما بقي موقف "القوات" واضحاً لجهة عدم تكليف الوجوه السياسية نفسها تطبيقاً للأصول القائمة على احترام إرادة المواطن وكرامته. تصوّر البعض هذا الموقف خلافاً بين حلفاء 14 آذار، لكنهم لم يدروا أن الأساس لا يتزعزع لو مهما تباينت المواقف.
أمّا الآن، فالأنظار متوجّهة إلى أشكال تأليف الحكومة، فخيارات الحريري في التأليف ثلاث كما أتت في تغريدة لعضو تكتّل الجمهورية القويّة النائب عماد واكيم: "حكومة بالفعل مستقلّة، حكومة تكنو سياسية، أو حكومة مموهة." وشدّد واكيم على أن "الحالة الأولى هي الوحيدة التي قد تنجح في إنقاذ لبنان اقتصادياً شرط استطاعته الالتزام بشروط صندوق النقد الدولي المتعلقة بحسن إدارة الدولة والتي تؤدي حتماً إلى محاربة الهدر والفساد."
ولا يزال حزب القوات اللبنانية يطالب بانتخابات نيابية مبكرة لعلّها تعطي ولو القليل من الأمل بالتغيير للشعب اللبناني، فلما الرفض الواسع؟ ألستم ملمّين بأوجاع أبناء الوطن؟ أو أنّكم خائفون من الفضيحة الكبرى الناتجة عن تلك الانتخابات؟
أسئلة تطرح وجوابها واضح، إنّما يتهربون عمداً من الإجابة عليها.