لا تنتهي أزمة سياسية في لبنان حتى تبدأ أخرى، ويشعر اللبنانيون فيها بأنهم وصلوا إلى طريق مسدود، فاقدين الأمل من تحسين أوضاع لبنان مرّة تلو الأخرى. بعد فترات طويلة الأمد من الفراغ الحكومي، وقعنا في فراغ رئاسي أعادنا إثر انتهائه إلى أزمات تشكيل ثم تكليف فتأليف مجدداً. ولا زلنا اليوم في صلب هذه الدوامة مع عقدة التأليف بين الرئاستين الأولى والثالثة. فما هي الأسباب المنضوية خلف هذه العراقيل؟ كيف يُعقل أن يقع النظام الديمقراطي في هذا الكم من العراقيل في ظلّ دستور يحفظ اللعبة السياسية من الأعطال؟
أعطى دستور ١٩٢٦ مع التعديلات التي لحقت به عام ١٩٤٣ ترجيح الحكم للمسيحيين، في نظام رئاسي يحكمه رئيس ماروني ذو صلاحيات واسعة. ثمّ أتت تعديلات الطائف لتوازن بين مختلف الطوائف، موازية تقسيمات الحكم بين مجلس نواب يختار الرؤساء الثلاث ومجموع الحكومة التي تحصد الثقة من الأكثرية النيابية. ومن هنا، لم تعد السلطة الفعلية بيد أفراد، بل أصبحت مقسومة على الجميع ضمن مجلسَيْ النواب والوزراء، ولو عارض البعض زوراً متذرّعًا بضرورة حماية حقوق المسيحيين.
يقع تشكيل الحكومة على عاتق رئيسَي الجمهورية والحكومة بالشراكة والتشاور والتساوي. لكن ما لم يتوقعه المشرّع أن يسمي وينتخب مجلس النواب رئيسين من خطين سياسيين نقيضين متخاصمين. لم يصل العماد عون إلى الرئاسة إلا بعد تعطيل مديد للعمل الديمقراطي الطبيعي، داعمًا نفسه بسلاح حزب الله حتى ألزم جميع الأفرقاء بانتخابه لإعادة الانتظام السياسي الديمقراطي للمؤسسات الدستورية. انتُخب عون بأكثرية نيابية زائفة، وهو يحصد نتائجها اليوم، إذ عادت أكثرية جديدة لأسباب مختلفة وسمّت الحريري من دون موافقة عون. نحن اليوم في مأزق سياسي سببه عدم احترام الديمقراطية.
في كل أنظمة العالم الديمقراطي، تنقسم الأحزاب بين المعارضة والموالاة، وتحكم بينها الديمقراطية لمحاسبة الحكومة أو مكافأتها، وبالتالي تدوير مراكز الأحزاب بين موالاة ومعارضة عبر الانتخابات. أما في لبنان، ثمة مجموعة هجينة جزء منها مصنف ضمن لوائح الإرهاب، وجزئها الآخر مصنف ضمن لوائح الفساد، يُعارض جهة ثالثة. وفي الحالات الثلاث كلّها، لا يجوز لأيّ جهة من الجهات الثلاث هذه أن تستلم زمام الحكم. وعلى الرغم من ذلك، ولتأكيد وضمان البقاء في الحكم، إلا أن هذه المجموعة تسكت عن الأخرى لأنّها بحاجة إلى الحريري كواجهة لحكومة جديدة.
يتحمل مسؤولية الأزمة الحكومية اليوم الرئيس عون الذي ألزم الجميع بانتخابه هو أو لا أحد، ويتحملها أيضًا الرئيس الحريري الذي رضي بتشكيلة حكوميّة فُرضت في ظلّ صفر تنازلات من الأكثرية الحاكمة. كي يستقيم الوضع في لبنان يُعاد إحياء الديمقراطية الحقيقية، ينبغي الذهاب إلى انتخابات نيابية مبكرة ينتج عنها أكثرية نيابية جديدة، تنتخب بدورها رئيس جمهورية وتسمي رئيس حكومة من لون واحد ومشروع واحد لتشكيل حكومة إنقاذ حقيقية. يبقى على الشعب اللبناني أن يحسن اختيار ممثليه، وأن يعتمد الجميع سياسة صفر خوف في مواجهة سلاح البرابرة، ويعتمد على الكفاءة معيارًا لحسن الاختيار.a