إن ألقيت نظرةً على بعض الصّور القديمة وتسمّعت إلى أحاديث أهالي منطقة الكورة القدامى، ستتبادر إلى ذهنك فورًا الكورة التي تحفل بأراضي الزيتون والمساحات الحرجية الشاسعة، ولا أيّ تلوّثٍ يتعرّض للمياه أو الهواء ولا حتّى أيّ تلوّث بصري. لكنّ الحقيقة والواقع أشدّ ظلمةٍ وفظاعةٍ من تلك الوقائع القديمة. أيّ إن أردت اليوم أن تبصر بالعين المجرّدة وأن تتمعّن بدّقة وعن قرب في الوضع البيئي الذي توصّلت إليه الكورة، فلن تدرك سوى المقالع والكسّارات التي التهمت جبالًا ومساحات خضراء، والمباني العشوائية التي تنبع في زوايا البلدات وشوارعها، ناهيك عن مسألة تلوّث المياه والصرف الصحي. أمّا تلوّث الهواء الذي يتحكّم بصحّة المواطنين فحدّث ولا حرج... وغيرها من العناوين الموجعة التي تتربّع على هرم المساوئ البيئية في منطقة الكورة في شمال لبنان. صحيحٌ أنّ الكورة لطالما لُقّبت بالـ"الكورة الخضراء"، إلّا أنّ وضعها البيئي الحالي في هذا البلد حيث التلوّث يُثقل كاهله، قد سلب منها هذا اللّقب، وحتّى لم يعد أهلها بعد اليوم يتباهون بما كانت تتّسم به تلك الكورة الخضراء سابقًا.
لم تسلم الكورة وأهاليها من أوجه التلوّث المتعدّدة والمنتشرة في مختلف البلدات والقرى. ولن نفشي سرًّا إن قلنا إنّ الأعمال الصناعيّة في بعض المناطق الكورانية لا تأبه للكوارث البيئية التي توّلدها ولا للمخالفات القانونيّة التي ترتكبها. فبدايةً، لا يختلف عاقلان على أنّ مسألة مقالع شركتي السبع وهولسيم للاسمنت في بلدتي كفرحزير وبدبهون تشكّل أولى أسباب المعاناة التي يتكبّدها قضاء الكورة بأكمله. وعليه، تقلّصت المساحات والأراضي الحرجية وشُوهت بعد أن استولت عليها تلك المافيا البيئية ومارست إرهابها البيئي بحقّ الأرض وصحّة السّكان الذين باتوا ضحية انتشار الغبار السّام وتفشي أمراض الرئة والسرطان بسبب تنشق الدخان والغبار. زد على ذلك الدراسات العديدة التي نبّهت في هذا الإطار لاقتلاع الصخور والتربة من دون أيّ اعتبار قانوني أو صحيّ، ولما تؤدي إليه هذه التداعيات من تغييرٍ جذريٍّ في نوعيّة التربة والهواء وتدهور الحياة البيئية والبيولوجية في كفرحزير وبدبهون والمناطق المجاورة لكلتي البلدتين.
كان للمياه الجوفية نصيبها من هذا التلوّث، إذ أدّت أعمال شركات التربة والكسّارات إلى خللٍ في التوازن البيولوجي بسبب الاهتزازات والتفجيرات وتغيير مجاري المياه الجوفية وتلويثها. وتتسائلون عن سبب شحّ مياه الشّفة أو أنواع البكتيريا المختلفة التي تخطّت نسبتها الحدّ الأقصى في المياه التي تصل إلى المنازل؟! لم يغب تلوّث المياه والصرف الصحي عن لائحة مشاكل الكورة. فهل تجدي محطة تكرير للمياه الصرف الصحيّ في أنفه أيّ نفعٍ إن كانت عاطلة عن العمل؟ وهكذا طبّقت هذه المحطة المقولة الشّعبية "بس منظر". وما بالك إذًا بما يتعلّق بأزمة مادة البتروكوك السّامة وأماكن تخزينها التابعة لشركة السّبع في المنطقة الصناعيّة بين بلدتي أنفه وشكّا على شاطئ البحر. إذ تزيد هذه المادة من وطأة الأمراض لدى سكّان المنطقة، وبشكلٍ خاصّ لدى صغار السّن والمسنين والمصابين بأمراض في الجهاز التنفسي.
أمّا الانتهاكات القانونيّة، فعلى عينك يا تاجر. هل أصبحت الأعمال الصناعيّة أقوى من الهيئات القانونية؟ ومن أين لها الصلاحيات في تجاوز حدّ السلطة؟ فعلى سبيل المثال لا الحصر، وإلى جانب المخالفات التي ترتكبها المقالع والكسّرات وانتهاكاتها للقوانين، تُجسّد مجابل الزفت في بلدة ذكرون المثال الأوضح على ذلك، بالرغم من أنّ مجلس الشورى الدولة قد أصدر قرارًا بإقفالها عام 2017. وفي هذا الإطار، تُفيد مصادر رسميّة أنّ هذه المجابل تتمكّن حاليًا من الحصول على مهل إداريّة مخالفة للقانون لتستمرّ في تنفيذ أعمالها غير مباليةٍ طبعًا بالسلطات القضائية أو بالمجازر التي ترتكبها أو بمعاناة السّكان وارتفاع نسبة المتضررين صحيًّا في ذكرون والمناطق المجاورة لها والمصابين بأمراض الربو والتنفس والحساسيّة، أسوةً بسائر المشاكل الصحيّة وأمراض السرطان نتيجة الدخان والغبار المنبعث من المجابل.
ولا يغيب عن أحد طبعًا الأوضاع الصحيّة المتدنية لدى نسبة كبيرة من سكّان الكورة وملازمتهم للأمراض، لا سيّما أمراض الجهاز التنفسي جرّاء تلوّث الهواء والغازات السّامة وغيرها من انبعاثات السموم والدخان من معامل الاسمنت في شكّا، فضلًا عن انتشار الغبار بسبب أعمال المقالع والمرامل خاصّةً وإن كانت الرياح جنوبية-غربية. على سبيل المثال ووفقًا لما تُشير إليه الاحصاءات لدى البلديات، ارتفعت نسبة أمراض السرطان في بلدتي فيع وعفصديق وتعدّت 31% تقريبًا باعتبار هذه النسبة مخيفة في هاتين البلدتين الأكثر تضرّرًا. فمن يُعتبر إذًا المسؤول الأوّل في تأمين العلاج لمرضى السرطان ودفع تكاليفه؟
يكون الكلام غير كافٍ لتسليط الضوء على جوانبه كافةً وعلى التّفاصيل الأخرى والمجازر البيئية والقانونية والصحيّة التي يرتكبها إجرام الاسمنت والترابة والكسّارات. ولن ندّعي بأنّنا السّباقون في معالجة مسألة التلوّث المزري في الكورة والتحقيق فيها، ولا تشكّل هذه المُعضلة مسألةً حديثة النشأة، لكن هذا الملف أصبح ملفًا ساخنًا وعلى لسان الكورانيّين والمعنيّين وسلطات الدولة لا سيّما وزارات البيئة والداخلية والعدل. وحريّ بنا طرحه ولو بشكلٍ مقتضب، إلّا أنّنا لم نعد نحتمل هذا الكابوس البيئي الذي بات يلاحقنا يوميًّا حتّى أن أصبحت الكورة الخضراء تحتضر.