يخطئ من يظن أنّ الصراع اليوم سياسيّ بحت؛ فالحقيقة أنّ الصراع فلسفيّ - قيميّ بأدوات سياسية بين نهجين: الأوّل يعرّف السلطة بأنّها مسؤوليّة نبيلة في خدمة المواطن والخير العام، فيما الآخر يرى السلطة كأداة تسلّط على البلاد والعباد لتحقيق مصالحه الضيّقة أو مصالح مشغّليه. وقد فرزت التطوّرات الأخيرة في الحلبة الحكوميّة زوان السياسيّين من قمحهم، فأثبت المحور "الجهنميّ" الحاكم أنّه في ظلّ سطوتهم على الدولة ومؤسساتها بتسليط سيف الدويلة على عنقها، ولا نتيجة سوى بؤس المصير.
لا يصبّ اعتذار الرئيس المكلّف مصطفى أديب عن تشكيل الحكومة إلّا في خانة هذا الصراع ذات الأبعاد الوجودية بالنسبة إلى الشعب والدولة، رافعًا بقراره هذا صرخة مدويّة في وجه الثلاثي المشؤوم الحاكم. صوت صارخ في دولة تخضع للارتهان على حساب المصلحة الوطنية ودولة الفساد الأخلاقي والإداري معًا، وما أخطر هذا التزاوج الثنائي. من لبنان الجنّة إلى لبنان الجهنم... هذه نتيجة معادلة الميليشيا التي تحاول محو لبنان "اللبناني" بهويّته الحضارية.
أتى أديب رافعًا "لائاته" الثلاث، الأمر الذي بدا منسجمًا مع موقف "القوات اللبنانية"، ولا لحكومة المحاصصة والزبائنيّة، ولا لتحكيم منطق الاستقواء على منطق الدستور والميثاق، ولا لحكومة غير حكومة المهمّة الانقاذية. التمس أديب حقد طبقة الأشرار الحاكمة هذه على كلّ ما يصب في مصلحة الوطن والمواطن، واختار الذهاب بقناعاته لما يصبّ في مصلحة لبنان بدلًا من الانصياع والاستسلام. رجال تركل إغراءات المناصب والكراسي حينما تفشل في تحقيق تطلّعاتها.
مرّة أخرى تثبت الأحداث صوابيّة خيارات حزب القوّات اللبنانية، بأنّ لا حلّ سوى في التخلص من هذه الطغمة الحاكمة ولا سبيل لذلك إلّا عبر الثورة البيضاء في صناديق الاقتراع. ولهؤلاء الأشرار نقول: "حذار من انهيار الهيكل، فانهياره يكون على رؤوس الجميع".
كما إننا نفتقد إلى مسؤولين يستقيلون بعد عدم تمكنهم من تحقيق تطلعاتهم في بناء الدولة، وبالتالي كل الأمل في أن تنسحب خطوة أديب بالاعتذار على مسؤولين آخرين لا يمكنهم إخراج البلد من ورطته. فهل يستقيلون كما فعل أديب؟ أم سيتمسكون بموقعهم وأدوارهم وسلطتهم على حساب الناس والبلد؟
قد تلخّص عبرة التطورات الأخيرة في الحلبة الحكوميّة بمقولة مونتسكيو الشهيرة: "إذا أردت أن تعرف أخلاق رجل، فضع السلطة في يده ثم انظر كيف يتصرف". فالسلطة يا سادة تعرّي ممسكيها.