عيد الميلاد، شعلة دافئة تدخل القلب في اللحظة التي تُسمع أنّ حيث تقوم الحفلات والترانيم الميلادية والزينة في الشوارع والبيوت، طرقات تتنافس بجمال زينتها، أطفال تعتلي وجوههم البسمة في عيد توزَّع فيه الهدايا، أمّهات منغمسات بتحضير أطيب المأكولات لليلة العيد المنشودة. كم من الجميل الكتابة عن هذا العيد بأحلى مشهدية وأروع الكلمات والعبر، للتعبير عن فراغ كبير يملأ حياتنا اليوم. فكيف أنطلق بأجمل مشهد في أفظع واقع، وأتكلّم عن دفء الحبّ وسط برد كراهية الإنسان وأنانيّته؟ كيف أصف فرحة العيد في بلد نسي الفرح ليُعاد عليه بالألم؟
حالة اللبناني اليوم ليست بخير؛ وضع معيشي أكثر من صعب وأزمات متتالية، إن كانت سياسية أو اقتصادية أو صحية، ناهيك عن أسباب افتقار الإنسان لإنسانيّته. لبنان اليوم يقوده جشع سلطة حاكمة، أنانيّتها وتغليبها للمصلحة الخاصّة على المصلحة العامة. فاستسلمت لرغباتها وتحكم وتنفّذ مشاريعها إرضاء لأهوائها، بدءًا بوضع سياساتها العامة بما يخدم مصالحها، وتسييس القضاء أو محاولة التحكّم به وتغيير الحقائق أو إعاقة التحقيقات، وقيام الدعاية السياسية أو ممارسة التعتيم الإعلاميّ، ومحاولة إخفاء فسادها الذي نخر شرايين الوطن لسنوات طويلة في كافة القطاعات، وصولًا إلى حرمان المواطنين من أدنى حقوقهم، وقمعهم كلّما حاول الوقوف بوجه السلطة النّتنة. نعم، هنا العيد في لبنان، حيث نعيّد كما يقال "عالبركة"، فالواقع الأليم لا تسعه الصفحات لنصف حقيقته.
من الصعب لا بل من المبكي النظر في عيني طفل في لبنان؛ وأنا لا أتكلّم فقط عن عدم قدرته على الحصول على الهدايا. فهذه من أكبر مظاهر الترف في بلادنا، بل أشير إلى أبسط حقوقه المسلوبة منه. ونصطدم اليوم بمواقف حيث يقف الأهل أمام أولادهم عاجزين عن تأمين حاجاتهم الأساسية. أمِن الطبيعيّ أن نسمع في الإذاعات أولادًا يبكون لافتقارهم لوسائل التدفئة في بيوتهم أو لأنّهم يأكلون يوميًّا الخبز الناشف؟ ناهيك عن الأولاد الذين حُرموا من الذهاب إلى المدرسة بسبب غلاء المعيشة وعجز أهاليهم عن تزويدهم بالطعام في المدرسة أو تأمين كتب الدّراسة لهم.
وجع الأهل في لبنان حدّث ولا حرج؛ فهم الذين تقع عليهم أعباء الأسرة التي يتطلّب حملها معونة الله في ظلّ الأوضاع المعيشية الرّديئة. ففي العيد لا كهرباء تمكّنهم من إضاءة الشجرة والمغارة للاحتفال مع أبنائهم، ولا مدخول يساندهم أو يكفيهم لتحضير عشاء العيد الذي حتّى وإن كان متواضع أصبح ثمنه باهظًا جدًّا. كلّها تفاصيل لم يعد من حقّنا كلبنانيّين أن نحلم بها، وبات همّنا تأمين المستلزمات والحاجات الأولية الضرورية. للأسف، لا نعيش في لبنان، بل في حالة صراع دائم للبقاء على قيد الحياة. ولا ننسى العائلات التي تشتّت أفرادها بعدما فرّقتهم الغربة، ها هي تعيّد هذه السنة "عن بعد" بحيث لا مستقبل موعود في لبنان يبقي أهله هانئين فيه مطمئنّين.
واقعنا المرير يتطلّب معونة طفل المغارة الذي ولد ليخلّص الإنسان، بعدما سمع صراخ شعبه. "وَٱلنُّورُ يُضِيءُ فِي ٱلظُّلْمَةِ، وَٱلظُّلْمَةُ لَمْ تُدْرِكْهُ." لبنان أرض القديسين والمعمّدة بدماء الشهداء، أيخمد فيها الرجاء؟ أيفتر فيها الإيمان؟ كم مرّت على لبنان ويلات ومِحن وقام منها كطائر الفينيق. كما يقول مثلّث الرحمات الكاردينال مار نصرالله بطرس صفير:" صليب لبنان ستكون قيامته." ففي وسط الظلام سيكون نور، ميلاد الرب له معنى آخر هذه السنة إذ أصبحنا واعين لجوهره. فلنتحلّى بالرجاء والإيمان بالله الغني بطبيعته الذي أحبّ فقر بشريّتنا، سمع صراخنا وتجسّد ليرفعنا معه وليكن ميلاده خلاصًا للبنان".