أتوجه إليك اليوم ومن بعد شهر من وقوع الجريمة، بمزيج من الحزن والألم وبكلمات تحمل ما تبقّى من دموع سكانك وقاطني لبنان الحلم وجروحهم ودماءهم. أتوجه إليك ليس فقط بما تبقى من كلمات، بل بما تبقى من قوّة في داخلي، وبكلمات ممزوجة بكل دمعة عين أو قطرة دماء سقطت على أرضك، إن كانت في سبيل الدفاع عنك أو بسبب إهمال المجرمين الموجودين في السلطة الحاكمة، أو حتى بسبب بعض المرتزقة الممتلكين سلاح خارج سلطة الدولة.
ألم تتعبي يا بيروت من لملمة جروحك التي لم تفارقك منذ نشأتك؟ ألم يحن الوقت لكي تنهضي لمرة واحدة صارخةً عاليًا "كفى"؟ كم تبقّى لديك من القوة والقدرة لتحاربي جاهدة، عبثًا؟ بسبب بعض المجرمين الذين لطالما لم يحبونك ولا يريدون رؤيتك جميلة ومزدهرة ومزهرة كحديقة أحلام في وسط بحر من الغموض والظلام.
رؤيتك مدمّرة ومهمّشة ومجروحة ومحروقة يقتل وجدان كل من يحمل داخله ذرّة إحساس وضمير. رؤيتك هكذا مرتدية وشاح الموت يقتلنا مرّتين، مرةً لأننا عرفناك بجمالك ومرة أخرى لأننا اجتِحنا بحزن قاتل عند رؤيتك بحلّة الموت.
بتنا الآن نغوص أكثر فأكثر في حبك، ونبكي عند سماعنا كلمة "بيروت". ليس فقط لأننا نحبّك، بل لأننا نراك من أجمل مدن العالم. لكنّهم يحوّلونك يومًا بعد يوم إلى مدينة تجتاحها غيوم سوداء داكنة، كقلوب كل مجرم لا يريد منك أن تكوني مرتدية ثوب أبيض الحب والسلام.
وكأنك بتّ متعودة على الدمار، وكأنّك اليوم تصرخين مستغيثة كل من أحبك، طالبة المساعدة. باتت جدرانك تسمع أكثر مما كانت عليه، لا بل اعتادت سماع هذه الأصوات، أصوات فلسفة الموت. ففي سمائك لا دخان انفجار تسببه هؤلاء الشياطين، بل في سمائك جرعات أمل ومحبة وإنسانية تتساقط على أجسام باتت بمعظمها محروقة ومبتورة ومجروحة. جرعات تتساقط على قلوب مكسورة.
في بحرك لا شظايا أو ترسبات انفجار، إنما دماء أشخاص كانوا ليفتدوك. في أروقتك جدران نُحتت عليها بخط عريض كلمات لا تشبه الكلمات، بل أقرب إلى حروف مليئة بالحب. وأنت لطالما كنت لؤلؤة هذا العالم لا فقط الشرق، فلا تحزني ولا تيأسي أيتها اللؤلؤة. كما سلك المسيح المخلص درب الجلجلة وكان ختامها القيامة، فأنت كذلك. لا يسعنا أن ننسى أن لبنان أرض القداسة، وقيامتك يا بيروت أصبحت وشيكة.
لا تحزني يا جميلتي. جميلة كنت، وجميلة أنت، وجميلة ستبقين. لا تحزني إن دمرت جدرانك وبيوتك ومتاجرك ومرفأك... وإن يتطلب إعادة إعمارها الكثير إلّا أنها لن تبقى مهدمة. لكن كيف لنا إعادة بناء قلوب كل شخص فقد أحبائه؟ كيف لنا إعادة بناء أرواح جميلة، غادرتنا متوجهة عاليًا نحو ربنا؟ كيف لنا إعادة بناء أجساد مُزّقت وقع الانفجار...
أسئلة كثيرة في سماء فكرنا، لكن هل الإجابات أيضًا كثيرة؟ تعذرت لغة الكلام أمام فاجعة كهذه. وعلى الرغم من مرارته، إلّا أنّ التفكير يدفعني لإيجاد سبل الخلاص، ويدفعني بعزيمة أقوى آملًا ببيروت من جديد.
يا بيروت يا حبيبتي انهضي! فنحن بحاجة إليك كما أنت بحاجة إلينا، فلنتكاتف سويًا لإعادة هويتك التي سُلبت منك. لا تحزني يا بيروت، فمساحة الأرض تضيق وتضيق وبعدها يتّسع المدى. فكما الموجة ارتميت متلاشية على سرير الفساد والإهمال، سقطت وسقطنا معك، رحلنا لهبًا يا بيروت، لكن وعدٌ منّا سنعود.
بيروت ليست فقط بحاجة إلى حجر أو زجاج أو مساعدات ماليّة، بل هي بحاجة إلى نفوس تحبها حبًا جمًا، وتحميها من الأشرار، وتضمها عندما تشعر بالوحدة، وترافقها وقت الشدة، وتدفئها من صقيع إنسانيّة بعضهم، وتقاتل النفوس الشريرة عندما تقترب منها. في كلّ ليلة نعاود سماع الألم، ويقرأ علينا العمر ويرسم في وجوهنا بعض التجاعيد. في كلّ ليلة نستذكر ضحاياك، وفي كلّ ليلة نبكي حزنًا متألمين جراء ما حصل.
أبكيتنا يا بيروت كما لا سابق، عميقة هي حكاياتك. حكاية بيروت، عميقة هاويّة واقعها. وهي كأم تجالس الحزن وتتكئ على ابتسامة. منتظرة بصيص أمل يأتيها على فرس أبيض، يأتيها صاهلًا حماسًا لنهضتها. بيروت يا بيروت! نحبك... نحبك كما أحببتنا واحتضنتينا، لا بل أكثر. يا بيروت، انفضي هذا الغبار وانهضي. انهضي، لأننا نحن اليوم بحاجة إليك أكثر من أيّ وقت مضى، باقيين.