في زمن الوصاية السُّوريَّة، وعندما كان الزُّعماء المسيحيُّون، وبشكلٍ خاص الموارنة منهم، مغيَّبين عن السَّاحة السِّياسيَّة الُّلبنانيَّة بسبب المنفى أو الاعتقال، توحَّد شباب المجتمع، وكان على رأسهم شباب اﻷحزاب والتيَّارات المسيحيَّة، واضعين أمامهم هدفًا وحيدًا، أﻻ وهو استقلال لبنان من الوصاية السُّوريَّة وإعادة قرار الدَّولة إلى الدَّولة الُّلبنانيَّة، وكان هذا من أهمّ اﻷسباب الَّتي أدَّت إلى استقلال 2005.
خرج النِّظام السُّوري عسكريًّا من لبنان، لكنَّ رواسبه وعملاءه بقوا. عاد من عاد من المنفى، وخرج من خرج من المعتقل، وعاد الانقسام للأسف الشّديد بين أبناء الصَّفِّ الواحد، فانقسم البلد وشبابه ومؤسَّساته مجدَّدًا ودخل لبنان نفقًا يشبه نفق الوصاية: قرار الدَّولة كان للخارج، والسِّياسة والعمل السِّياسيّ كانا كالحرب الباردة... اﻷمن وااقتصاد والمجتمع في انحطاطٍ تام والمؤسَّسات في حالة غيبوبة! نعم، شهد لبنان 11 عامًا من التخبُّط والصِّراع ولم يُسجَّل أيّ شيء إيجابيّ في تاريخ البلد خلال تلك المرحلة بسبب بقاء الوصاية غير المباشرة على الدَّولة وقرارها. هذا وسقط العديد من الشُّهداء الَّذين كانت أمالهم وأهدافهم تتماشى مع أهداف شهداء الحرب الُّلبنانيَّة... أهداف تختصر بثلاث كلمات: "الحريَّة، والسِّيادة، والاستقلال".
وبعد انتهاء ولاية الرَّئيس ميشال سليمان، دخل البلد حال الفراغ في سدَّة الرِّئاسة اﻷولى، ناهيك عن الشَّلل التّام الَّذي ضرب جميع مؤسَّسات الدَّولة بشكل عام، ومجلس الوزراء ومجلس النوَّاب بشكل خاصّ. وصل الوضع إلى ذروة الانحطاط والفساد والتدهور، ولم يبق أمام المعنيِّين، سوى حلٌّ وحيد وهو "إعادة لبنان"، أي بناء الدَّولة والنُّهوض من القعر ورفع الهيمنة والفساد عن قرار الدَّولة... كان لا بدَّ من الوحدة للوصول إلى هذا الهدف، ولتحقيق الوحدة نحن بحاجة إلى حوار، والحوار يتطلَّب تضحيات، والتَّضحيات تستكمل بالمواقف الشُّجاعة والجريئة حيث ﻻ يجرؤ اﻵخرون... وهكذا، ظهرت العديد من الحوارات بين العديد من اﻷطراف فكان بعض منها مضيعة للوقت، والبعض اﻵخر كان حوارًا حول العديد من اﻷمور البعيدة عن جوهر المشكلة، ومنها ما كان حوارًا جديًّا تصبُّ أهدافه لحلِّ المشكلة والدُّخول إلى جوهر الحقيقة.
وضعت خطَّة عمل للحوار بين القطبين المسيحيَّين اﻷبرز على السَّاحة الُّلبنانيَّة، وهما حزب القوَّات الُّلبنانيَّة والتيَّار الوطنيّ الحرّ. ودام هذا الحوار أكثر من سنة، فعُرضت فيه العديد من المشاكل والخطوط العريضة. وبعد عدَّة جلسات، ظهرت ورقة النَّوايا كمرحلة أولى ومن ثم بدأ العمل على تقريب وجهات النَّظر وتدوير الزَّوايا وتأسيس حلف صلب بين القطبين بهدف خدمة المسيحييّن والُّلبنانييّن. دام الحوار حتَّى الوصول إلى القمَّة، وهي نقطة لرؤية مخرج النَّفق! وبدأ الحديث عن تجرُّؤ القوّات اللبنانيّة على سحب ترشيح الدُّكتور سمير جعجع ودعم ترشيح العماد ميشال عون للوصول إلى سدَّة الرِّئاسة اﻷولى. قال البعض: هل يفعلها جعجع؟! وتساءل البعض اﻵخر: هل يزور عون معراب؟! والبعض لم يصدِّق، والبعض اﻵخر حاول التّأثير سلبًا لضرب الحلف والمصالحة.
من انتظر في منزله في غدراس ساعة الصِّفر لوصول الضبَّاط والعناصر وسلَّم نفسه للمعتقل المجهول وفاءً لشعبه وأرضه وشهداء قضيَّته، لن يصعب عليه أن ينتظر أخاه في مقرِّه في معراب، ليسلِّمه السلطة بانيًا بذلك حلفًا قويًّا لقيام الدَّولة والمؤسَّسات. ومن خرج من قصر بعبدا وذهب إلى المنفى، لن تصعب عليه زيارة أخيه المسيحيّ ليعود من بعدها إلى القصر رئيسًا للجمهوريًّة القويًّة.
هذا ما حدث بالفعل وسقطت جميع الرِّهانات: نجح الحلف في الخطوات اﻷولى والثَّانية، وخرجنا كمسيحييّن ولبنانييّن من النَّفق، والعين قاومت المخرز، ووصل العماد عون إلى سدَّة الرئاسة، وبدأ العهد الجديد المبني على أسس لبنانيَّة وليس على مصالح خارجيّة، المبنيّ على التَّفاهم والوحدة وليس على الوصاية والتَّسوية، المبنيّ على بناء الدَّولة وليس على تقاسم الدَّولة!
فعلها سمير جعجع، فهو لم يكسب الرِّهان ﻷنَّه لم يراهن يومًا على وطنه. هو لم يقنع الجميع ﻷنًّ الجميع مقتنع بأنَّ هذا هو الحلّ الوحيد، فأصبحنا قادرين على تحقيق الحريَّة والسِّيادة والاستقلال! نعم، لقد أعادت المصالحة المسيحيَّة لبنان من المجهول وأعادت بناء الدَّولة الَّتي حفر أساسها في "قلعة" معراب بتاريخ 18 كانون الثَّاني 2016.