"العروس ذات الوجهين" هكذا سطّرت زحلة عنوان تاريخها. تاريخٌ انحنى إجلالًا لتلك المدينة التي عُرفت بصمود أبطالها وأهلها في وجه التحديات المميتة. ٢٢ كانون الأوّل 1980، وعلى إثر طرد مجموعة الحنش التابعة لأوامر المخابرات السوريّة، بدأت القوّات السوريّة حصارها على مدينة زحلة، فمنعت وصول المواد الغذائية والطبية حتّى أنّها فجّرت خزانات المياه لدفع الأهالي على الاستسلام، وكأنّها بدأت تشعل النار حول المدينة لخنق أهلها بالدخان لكنّهم لم يدركوا أنّ أهل الزحلة هم البركان الملتهب.
كانت العيون السوريّة متجهةً نحو زحلة لعدة أسباب، منها موقع المدينة الاستراتيجي بالنسبة لهم نظرًا إلى وجودها على طريق بيروت - دمشق، وموقعها على سفح جبل صنين الكاشف على هضبة الجولان والأراضي السورية المجاورة، واعتبارها أكبر مدينة مسيحية في الشرق الأوسط.
وفي 2 نيسان ١٩٨١، وتحت شعار "أمن البقاع من أمن دمشق"، فُتحت أبواب الجحيم على زحلة وبدأت الراجمات السوريّة بطحن البشر والحجر، فخرج الطلّاب من صفوفهم والرجال من بيوتهم لجلب أولادهم وويلات الأمّهات بدأت تعلو في أرجاء المدينة. أصيبت المدينة حينها بحالة ذعرٍ وخوفٍ كبير وأدرك أهاليها أنّهم أمام حاجزٍ تاريخيٍّ؛ إمّا أن تنكسر شوكتهم ويستسلموا، إمّا أن يصمدوا ويُزَفّوا كأبطالٍ أو كشهداءٍ أبطال. لكن عندما أرسل القائد بشير الجميّل برقيةً تاريخيةً إلى أهالي زحلة، قرّر الشبان الصمود والمقاومة ثابتين في جذور أرضهم، فكانت كلمتهم: "الموت ألف مرة ولا الاستسلام مرة".
أرسل بشير الجميّل ١٢٠ مقاتلًا إلى زحلة لمساندة المدينة وتنظيم صفوف المقاومة ووضع خطة الدفاع حيث أتوا من بيروت لمساندة شباب زحلة وتوزعوا على الجبهات بعدما أنشأوا غرفة عمليات خاصة لإدارة معركة زحلة. بدأت المعركة وحلّقت القذائف في سماء زحلة وانهمر الرصاص فوق الرؤوس. لكن سرعان ما تدارك الأهالي الوضع وحُفرت الملاجئ وأصبحت زحلة تحت الأرض، وبنيت التحصينات وكان الشباب جاهزًا للقتال. وتشارك الجميع الأدوار، فأمّنت النساء حاجات المقاتلين الغذائية وبنى الرجال المحاصن وتطوّعت الراهبات في الصليب الأحمر لمساعدة المصابين...
استمرّت المعركة وكانت من أصعب مراحل الحرب التي شهدتها الحرب اللبنانيّة. وسطّرت المدينة من خلال شبابها ملامح بطولية أذهلت العالم ودفعت جيش الاحتلال السوري إلى التراجع عن دخول المدينة والسيطرة عليها بالرغم من جهوزيته على صعيد العناصر والعتاد والدبابات والطائرات. صمدت المدينة في وجه العدوان وقدّمت مئات الشهداء الأبطال الذين روَوْا تراب هذا الوطن والمدينة بدمائهم وسجّلت أسماءهم في سجّل البطولات.
أثبت الانتصار في معركة زحلة ولادة جيلٍ جديدٍ في صفوف المقاومة اللبنانيّة و"القوّات اللبنانيّة"، وصمدت زحلة في كلّ مرحلة ظلم شهدها تاريخ "القوّات" مرورًا باعتقال قائدها سمير جعجع واضطهاد أفرادها ممّا خلق حالةً من الالتفاف حولها من قبل أهلها وباتت تُعرف اليوم هذه المدينة المقاومة بـ"زحلة قوّات".
وها هي اليوم زحلة من جديد تعاهد لبنان وأهلها و"القوّات اللبنانيّة" بأنّها ستبقى مدينة المقاومة في وجه كلّ احتلال وظلم واضطهاد، وهي على استعدادٍ لتقدمَ المزيد من الشهداء على مذبح الوطن ليبقى لبنان سيّدًا حرًّا مستقلًا، ولتظلّ زحلة "مربى الأسود" و"النجم اللي ما بينطال". وفي ذكرى شهدائها، ننحني احترامًا لجهودهم التي سعت إلى أن تبقى زحلة دار السلام، وبفضل هذا الصمود حافظت زحلة على عزة وكرامة شعبها وأعطت المقاومة اللبنانيّة الثقة بأنّها قادرة على الصمود في وجه كلّ الاحتلالات. ونعدهم بأنّنا سنظلّ النقطة الحمراء على الخريطة حيث كانت غصّةً لأعداءها في احتلالها ومسقط رأس ونهاية كلّ من حاول العبث معها.