لطالما شكّل لبنان ملجأً للمضطهدين والهاربين من القمع والظلم والإبادات الجماعية. ربّما هي طبيعته الصعبة التي يسهل الاختباء فيها، كما وغزوها شبه مستحيل، أو ربّما هي رسالة أهله الإنسانيّة والداعمة لكلّ إنسان مظلوم. فسكان لبنان، كما الجميع يعلم هم عشاق الحريّة وأبناؤها.
في تاريخنا الحديث، عرف لبنان ثلاث موجات لجوء أساسيّة كان لها طابع ملفت ومفصليّ ديموغرافياً: لجوء الأرمن في بدايات القرن ال 21 خلال الحرب العالمية الأولى هرباً من مجازر السلطنة العثمانية، لجوء الفلسطينيين الى لبنان سنة 1948 الذي تحوّل كارثة سياسية والى حرب أهلية، ثم آخراً، موجات لجوء الشعب السوري الهارب من حرباً هي الأشنع منذ زمن: من ثورة تحوّلت الى حرب أهليّة مع تدخّلات خارجية، بين نظام مجرم وميليشيات إرهابية، وجماعات إرهابية بعيدة كل البعد عن مفهوم الإنسانيّة، كان لها الوقع الأمرّ على السوريّين، ذبحاً وتنكيلاً وتعذيباً.
إذاً، لا بدّ هنا أن نستنتج أن النازح السوري قد خسر أرضه وبيته، خسر أفراداّ من عائلته، شاهد أشلاء أقربائه، التقى بأطفال تختنق من الغازات السامّة، حتى أنه قد مرّ مرّة على الأقل في دهاليز الموت في سجون سوريا فكيف يبقى لإنسان مهما كان قوياً، الوعي الكافي والحسّ الإنساني، وهو الذي عاش ما قد ذكرناه، ثم أتى ليلتحف برداّ قارساً في بعض المخيّمات التي أصبحت بؤراً إرهابيّة، ما لبث أن تحرّر منها حتى أتته إلى ما كان يفترض أن يكون ملجأ له ولما تبقى له من عائلة.
إن مواجهة هذا الإنسان بالكراهية، لن يولّد إلّا حقداً سيتحوّل إجراماً متى سنحت الفرصة. إن هذا الإنسان الذي خسر أبناءه بقصف النظام السوري وحزب الله، لن يتردّد باقتحام الضاحية الجنوبيّة بحزام ناسف. لذا، علينا أن نعالج هذه المشكلة التي فُرضت علينا بتأنّ، بدون تصرّفات عنصريّة، بمنظار علميّ اجتماعيّ، يتيح للسوريين العودة إلى بلادهم بكرامة وسلامة. الدولة اللبنانية في الأساس هي شبه عاجزة عن تقديم شروط العيش الكريم لمواطنيها، فكيف هو الحال إذاً، بعد فرض أعباء ما يقدّر بالمليون ومئة ألف مواطن سوري على الأقل؟
من المنظار الاجتماعيّ-الاقتصاديّ، لا بدّ من عودة المواطنين السوريين إلى بلادهم في أسرع وقت، وهو الحلّ الأنسب للشعبين، السوري واللبناني، فلا السوق اللبناني قادر على استيعاب اليد العاملة، أو التجار والمستثمرين السوريين، ولا الدولة اللبنانية قادرة على تقديم الخدمات الاجتماعية لهم.
إن الشعب اللبناني عموماً، وحزب القوّات اللبنانية خصوصاً، حريص كل الحرص، على سلامة النازحين السوريين في الأراضي اللبنانية، وهم بذلك يؤدون رسالة لبنان التاريخية. والدولة اللبنانية، تتفهّم الظروف القاهرة التي أجبرت هذه الجماعات البشريّة على النزوح إلى لبنان. لكن سوريا الآن، باتت على مشارف انفراجات إيجابيّة، قد خففت من حدّة المعارك فيها، وسمحت بإنشاء مناطق آمنة، بإشراف أميركي وروسي، وبمشاركة بعض الدول العربية كالأردن، قادرة على استيعاب أعداد هائلة، بمساحات تفوق مساحة لبنان بأضعاف.
إن الحكومة الألمانية على سبيل المثال، أعلنت من خلال وزير التنمية فيها غيرد مولر، أن الوضع في الجنوب السوري أصبح ملائماً لإعادة اللاجئين السوريين إليه، وأن بلاده تعمل على إعادة مئتي ألف لاجئ على الأقلّ.
إن الدولة اللبنانيّة اليوم هي قادرة على التعامل مع هذا الوضع بالطريقة الأنسب. فلا شرعية إلّا بيدها وحدها، وهذه الشرعيّة تتمثّل بالجيش اللبناني والأجهزة الأمنية التي أثبتت أنها قادرة على معالجة المشاكل الأمنيّة المستجدّة على الدوام بصلابة وكفائة. التنسيق مع نظام ساقط وفاقد الشرعية مسؤول عن إشعال هذه الحرب الشعواء لإعادة النازحين هي كارثة بحدّ ذاتها. فهذا النظام ما عاد يسيطر إلّا على القليل من الأراضي السورية ناهيك عن ارتكاباته الوحشيّة في السنوات الأخيرة بحق الأحرار في سوريا. وكيف علينا أن ننسّق مع النظام السوري لإعادة النازحين وهو ما فتئ منذ سنين يدمّر منازلهم ويُحرق سجلّاتهم لمنع عودتهم؟
إن حزب القوات اللبنانيّة الرائد في حلحلة الملفات العالقة، والخبير بمعالجة الأزمات قد وضع مسودّة تحمل خطة لإعادة النازحين السوريين سالمين إلى بلادهم. وقد شرح الدكتور سمير جعجع عن بعض نقاط هذه الخطّة في الأمس خلال المؤتمر الذي أقيم في معراب بين جهاز العلاقات الخارجية ومنظمة كونراد أدينهاور.
أخيراّ، ليست التجربة السورية اليوم شبيهة بتجارب العام 1969، فالدولة اللبنانية لها الوعي الكافي لعدم الدخول في اتفاقيات مشبوهة تساوم على سيادة لبنان. كما أيضاً، برهنت القوى الشرعية اللبنانية، جيشاً وقوى أمن العام على أنها قادرة على صدّ أي اعتداء أو محاولة لزعزعة أمن البلاد. فلا خوف على لبنان، طالما دولته قويّة، وشرعيّته راسخ، فلنعمل إذا على تفعيلها وحصر القرارات السيادية بيد الشرعية اللبنانية حصراً دون إشراك أي قوى أخرى.