العلمانية والعبرة في التطبيق
مساحة حرة FEB 17, 2021

عام ١٨٥٨، كان الكاتب البريطاني جورج هوليوك أول من صاغ معنى مصطلح "العلمانية"، وشرع في استخدام كلمة "علماني" لوصف نفسه وأتباعه. وعرفها قاموس كامبردج البريطاني على أنها مجموعة من المعتقدات التي تشير إلى ألا يجوز أن يشارك الدين في المجالات السياسية والاجتماعية للدول. وفي تحديد أسس العلمانية، هي ليست حركة ضد الدين أو لمحاربة الدين وإرساء الإلحاد؛ إذ مبادئها مبنية على فصل المؤسسات الدينية عن السياسية، والمساواة بين جميع الأفراد بغض النظر عن انتماءاتهم الدينية والطائفية. في ظل نظام يتّسم بالعلمانية، فإن للمواطن الحق في اعتناق دين معين وممارسة طقوسه الخاصة بكل حرية واحترام، أو حتى ألا يعتنق أي دين. ومن هنا لا تتدخل الدولة ومؤسساتها بالحياة الدينية، ولا تأخذ بعين الاعتبار التشريعات والأحكام الصادرة عن رجال الدين ومؤسساتهم. ويجب التوضيح إلى أن العلمانية لا تملك إطار إيديولوجي أو تسعى إلى فرض آراء في السياسة والاقتصاد أو العلاقات الدولية، ولا تقترح أو تفرض شكل للدولة أو سياسات عامة يجب إتباعها داخل مؤسساتها. فمهمّة العلمانية الوحيدة هي ضمان عدم تداخل وتدخّل الدين والدولة أو سيطرة أحدهما على الآخر.

 

ظهرت العلمانية بداية في أوروبا كردّة فعل على سيطرة الكنيسة وفرض سلطتها على الشعوب الأوروبية آنذاك، وتبلورت بعد الثورة الفرنسية عام ١٧٨٩، حين اتّبعت فرنسا النظام الديمقراطي، وبالطبع أرست بكل ثقل العلمانية على نظامها. ومن هذا المنطلق، يأتي تطبيق العلمانية في الدولة كردّة فعل ومن منطلق ومنظور تاريخي وثقافي واجتماعي خاص بكل دولة.

 

كما سبق وذكرنا، بُنيت العلمانية في فرنسا على أنقاض عصور من سلطة دينية، أفضت إلى ردة فعل جازمة عمقت دور العلمانية، وجذرتها داخل قيم الدولة الفرنسيّة وعبر تاريخ جمهورياتها الحديثة. فأخضعت مؤسساتها لقوانين صارمة تفصل بالكامل الدين عن الدولة، وحافظت دائمًا على هذا النظام، بغض النظر عن التغيرات اللاحقة حتى يومنا هذا. تعتمد الدولة الفرنسية نظامًا عَلمانيًّا تامًّا "ضاربًا في القدم"، وهذا ما ظهر جليًا عندما ردت بحزم على أي تصاعد للعمل الديني داخلها، وخصوصًا ما صدر عنها كردّة فعل على الأزمة الدينية التي واجهتها مؤخرًا.

 

على المقلب الآخر، تجربة تركيا مع العلمانية، تجربة ملفتة تستحق التوقف عندها. فتركيا العثمانية والسنوات الطويلة من الإسلام والخلافة الإسلامية، لم تستطع علمانية أتاتورك طمسها، بعد أن فرضت على شعب متديّن إلغاء الخلافة الإسلامية وتغيير الآذان للتركية وإلغاء ذكر الدين في الدستور والقوانين. ومن السهل رؤية هشاشة النظام العلماني في تركيا، لا سيّما مع تعاظم دور الأحزاب المتشددة دينيًا، التي تستعمل المشاعر القومية والدينية لمآرب سياسية، والمشهد كان واضحًا عند الترحيب الكبير للشعب التركي مع إعادة متحف آيا صوفيا لمسجد من جديد.

 

أما لبنان، فتقع العلمانية رهن ظل تأثير سياسي للمرجعيات الدينية والروحية، وتتقاضى بعض محاكمها أجور من الدولة. كما تؤثر بعض الأحزاب الدينية الإيديولوجية العميقة على السياسية اللبنانية الداخلية والخارجية، ناهيك التوزيع الطائفي في المجلس التمثيلي والأعراف الطائفية في التوزيع على الرئاسات الوظائف العليا في الدولة.

 

فهل يمكن اعتبار لبنان أنه يطبق العلمانية الخاصة، أم أنه ذات نظام طائفي متجذر؟ وهل القوانين وحدها تُعَلمن البلد ومؤسساته السياسية؟ وكيف ستكون تجربة العلمانية في بلد ينحدر من خلفية طائفية شكلتها أقليات دينية كل منها تطالب بحماية كينونتها ومصالحها الخاصة؟

مساحة حرة FEB 17, 2021
إستطلاع
مجلة آفاق الشباب
عدد استثنائي
إقرأ المزيد