اسمحوا لي ولو لمرّةٍ أن أتّهم سمير جعجع. إنّه متّهمٌ بالدفاع عن لبنان الـ10452 كلم2 حين كانت الدولة في غيبوبة والسلاح الغريب يغتصب كلّ شبرٍ من أرضنا؛ متّهمٌ بانتفاضته على من دخل صفوفه محاولًا بذلك تسليم لبنان إلى وصاية الأسد؛ متّهمٌ بعدم تغيير قناعاته مهما فرضت عليه الظروف؛ متّهمٌ بنضاله من خلف القضبان عوضًا عن أيّ نضال زائفٍ؛ متّهمٌ بقبوله للنظارة ورفضه للوزارة؛ متّهمٌ لأنّه رجلٌ لا يرضخ ولا يتستّر خلف قناعات هشّة واستعراضات بالية. سمير جعجع متّهمٌ لأنّه حوّل الزنزانة إلى ساحة إيمان ونضال سلمي. وإن كانت هذه تهمتك، فهنيئًا لك. غريبٌ أمرك يا رجل!
منذ أن تجرّأ السوري دخول لبنان عنوةً، عبثًا حاول إرضاخ "القوّات" وكسر إرادة صلبة لدى شعبٍ لطالما آمن بقضية الإنسان واستقلاليّة لبنان عن كلّ غريبٍ تطاول على سيادة أرضنا. وكلّما ازداد تمرّد جعجع و"القوّات" على إجرام الأسد، تأكّد السوري حينها أنّه لا يمكنه التعايش مع حالة سياديّة وقواتيّة حقيقيّة وحتّى وإن كانت خارج السلطة. وبالتّالي، تزعزع الكيان السوري بحزب "القوّات" وتنظيمه ووجوده سياسيًّا وشعبيًّا في كلّ شرائح المجتمع.
وهكذا، لم تعد بحوزة السوري سوى رصاصة واحدة. فأطلقها ولم تكفّ يده عن فبركة ملفات بحقّ سمير جعجع و"القوّات"، واعتَقل جعجع معتقدًا بذلك أنّه يُقدّم نهاية "القوّات" والقائد على طبقٍ من فضّة. لم يدرك السوري آنذاك أنّ كلّما اشتدّد نضال جعجع في المعتقل وإيمانه بتاريخٍ منصفٍ، تشبّثت معه روح المقاومة والنضال في صفوف القوّاتيّين.
21 نسيان 1994، قد يُدوّنه حبر تاريخ البعض على أنّه يوم انتصار أزلام الأسد على حزب "القوّات" وقائده، لكنّ التاريخ الحقيقي لا يُخفى. إذ انقلبت الموازين في ذاك اليوم وتبّدل مفهوم الحريّة، لتصبح حريّة الفكر والإيمان والتمرّد من خلف ما صنعه نظام الأسد. فكُتِب لسمير جعجع أن يخوض معركةٍ من نوعٍ جديد، معركة لم يشهد لها تاريخ لبنان القديم ولا الحديث، معركة متجرّدة من كلّ نوع للسلاح. إنّها معركة النضال والقضية والإصرار.
وفي كلّ يومٍ من 4114 يوم، سُجِنت الوصاية وتحرّر حزب "القوّات"؛ انحدر السوري وبقي سمير جعجع و"القوّات"؛ انهزم السوري وانتصر جعجع و"القوّات". ومنذ ذاك التاريخ حتّى مطلع ربيع 2005، تغيّرت المسارات السياسيّة وباتت حريّة جعجع من حريّة لبنان، لأنّه وباعتقاده دخل بقرارٍ سياسيّ ولن يخرج إلّا بقرارٍ سياسيّ محض. وهكذا، أثبت جعجع أنّ الإنسان المؤمن بقضية هو إنسان مؤمن بمشروع سياسيّ وبأرضه، ويرفض الهروب أو التخلي عن شعبه، لأنّ خيار التخلّي عن الأرض لا يتطابق وعقيدة "القوّات". وفي النهاية، لا يصحّ إلّا الصحيح.