ربّما كان هدف جورج زريق إشعال الثورة منذ 9 شباط الفائت، فاستهلّ الثورة بإحراق نفسه أوّلاً ليكون عبرةً للمسؤولين عن الوضع الاقتصادي الرديء الذي يعيشه اللبناني. إلّا أن لا مبادرات فرديّة توجّهت لحلّ المشكلة بل تلاشت القضيّة لتسجيل ضحايا أخرى كانت بسبب الأزمة الماليّة التي بدأت منذ الـ2017.
وقد يعتبر لبنان من بين الدول الأولى بنسبة الانتحار فيه ويرجّح السبب الوضع الاقتصادي الدنيء. لذلك كان لابد للفقير أوّلاً بالثورة، فالإنسان يحقّ له أن يثور لكن ليس على حساب حياته. من هنا انطلقت الحملات التوعويّة منذ حوالي السنتين تحت عنوان " الحملة الوطنيّة للصحة النفسيّة" للحفاظ على العقل السليم بالجسد السليم. وقد لاحظنا تأثير هذه التوعية بتدني نسبة الأشخاص الذين يضعون حدّاً لحياتهم يوميّاً.
ثورة 17 تشرين جاءت مكمّلة للمسيرة التي بدأها زريق والتي أظهرت أنّ معظم اللبنانيين هم بالحقيقة فقراء. الفقير اليوم هو ليس الذي يعيش تحت خط الفقر بل هو كل شخص عاجز عن دفع أقساط مدارس أولاده أو حتّى الاستحصال على إفادة، الفقير اليوم هو كل لبناني يدفع ما يتوجّب عليه من ضرائب مقابل لا شيء. الفقير اليوم هو الذي يعمل مقابل راتبٍ لا يكفيه دفع إيجار سكنه والحاجات الأساسيّة المعيشيّة. بالتالي أصبح اللبناني رغم غنى ثقافته وشهاداته الجامعيّة محكوماً بوضعٍ مريرٍ عنوانه العجز.
فقرنا اليوم نتيجة حواجز وُضعت أمام المواطن لشلّ حركته الاقتصاديّة الاجتماعيّة بدايةً مع نسبة بطالة تلامس الـ50% من الشعب معظمهم من الآباء يعجزون عن إعطاء أولادهم ألف ليرة لبنانيّة كحال ناجي الذي انتحر شنقاً في عرسال منذ ثلاثة أيام بسبب وضعه الاقتصادي الصعب. فقرنا نستتره بباتسامة خجولة وعبارة "ماشي الحال" مع العلم أنّ الحال تسير عكس التيار.
مشهدٌ جال على شاشاتنا في الأيام الأربعين الأخيرة حين نقل مراسلو المحطات التلفزيونيّة حياة اللبنانيين الذين يعيشون بأقل من ثلاث آلاف ليرة يوميّاً. فمنهم من يفترش الأرض ويلتحف بالسماء ومنهم من يقطن أحد المباني المهددة بالانهيار وأولادهم من دون أي وسيلة حماية من البرد القارس الذي بدأ يضرب شمال البلاد. مشهدٌ لا بل حياة اعتاد عليها نسبة كبيرة من اللبنانيين في حين أصحاب المسؤوليّات ينعمون في قصورهم غير مبلالين لحال الشعب.
فقرنا نتيجة غنانا
قد نسأل نفسنا لماذا وصلنا الى هذه الحال مع العلم أن البلد يتأرجح بين هاويتين، لماذا لم نتحكّم بنفقاتنا؟ لربما لأنّ أملنا بغدٍ أفضل هو الوسيلة الوحيدة لاخراجنا من المستنقع الذي نحن فيه أو لأن اعتقادنا أنّ غنانا الثقافي والعلمي قد يساعدنا من الخروج من المأزق الذي قد وضعنا فيه. نعم، إذ نحن شعبٌ قد آمنّا بأنفسنا في حين كانت السلطة تتلاعب بمصيرنا.
ثورة من رحم المعاناة.
ثورة تشرين هي ثورة ولدت من قلب معاناة يعيشها كل لبناني فالمجاعة سكنت معاجن الفقراء بفعل سلطة باعت نفسها وضميرها للشيطان بأخبس الأثمان، أولاد يتيتّمون بعد أن خطف الأَنين آبائهم، نساءٌ ورجالٌ يحاولون إحراق أنفسهم لعلّها الوسيلة الأفضل للتخلّص من وجع الحياة.
عسى المسؤولون يشعرون بحال الثوّار ويشكّلون حكومة تكنوقراط تخرج البلاد من حالته.
الرحمة لشهداء المجاعة.
الأمل للبنان أفضل.