كافحوا ضد الطغيان بإيمانهم بالله والأرض والإنسان، فحطّموا طوقي الجهل والعزلة. تمسّكوا بقيم مار مارون الجبّار وافتتحوا مسيرتنا في المقاومة والنضال وصنعوا مجد لبنان. حملوا صليب مار مارون الوقور فتغلبوا على الاحتلالات في عهد الظلم والظلام وصانوا هويتهم التاريخية، فنشأ كيان لبنان وولدت جمهورية. كيف لا وهو الراهب الناسك المناضل الذي بصلابته غلب الوعر واتخذ من الصخور والجبال عرشاً له. ولأنهم رفضوا الرضوخ والإذعان وأن يكونوا أهل ذمة لأحد، بقوا أوفياء لعظمة التاريخ الذي يختزنه أسلافهم من بطاركة موارنة تاريخيين إلى مقاومين شهداء في سبيل الحرية، وبقينا وبقي لبنان.
في البدء برزت المارونية كدرب قداسة سلكها مار مارون وكان القدوة في عيش الإنجيل بإخلاص وتفان وبساطة استثنائية، لتعود وتفرض نفسها كمدرسة لاهوتية فكرية في زمن الإشكالات حول شخصية المسيح والإنسان، قبل أن تتحوّل إلى مؤسسة كنسية مستقلة مع نشأة البطريركية. ومن ثم اتخذت الطابع السياسي في زمن المتصرفية قبل أن تتماهى مع القومية اللبنانية في ظل الانتداب الفرنسي وإعلان الاستقلال. وصحيح أن المارونية لا يمكن حصرها بجوهرها وانتشارها وتنوعها الثقافي بكنيسة وأرض، لأن ثرواتها كانت لتتشتت ومعالمها كانت لتتفكك حتماً لولا تأمين مقومات الوحدة والالتحام في بقعة شكلت قاعدة الارتكاز في لبنان، وطن اللبان والبخور والأرز.
وعندما نتحدث عن المارونية في لبنان لا يمكننا ألا نتطرق إلى علاقة الماروني مع الأرض اللبنانية حيث ولد من رحمها شعب وبلد. إذ تجمع الماروني بأرضه علاقة مترابطة متكاملة غير قابلة للانحلال والتفكك؛ فلولا الماروني لكانت الأرض عقيمة خاوية. ولولا الأرض لكان الماروني ضالاً فاقد الانتماء والجذور. ومنذ ألف عام ونيّف، لا تزال شعلة الشغف في حب الأرض والحرية متأججة رغم التعديات والاضطهادات والتصفيات الجسدية التي لم تطفئها، بل زادت من وهجها وقوّت العزيمة والإصرار على المواجهة والمقاومة في القلوب والنفوس.
وفي هذا السياق لا بد من الحديث عن المارونية السياسية. إذ برز في الآونة الأخيرة تنافس حول تقاسم إرث الموارنة في الدولة اللبنانية، ظناً من البعض أن أعدادهم تقلصت متناسين أن القوة المارونية السياسية هي قوة ذاتية مقاومة في سبيل الحرية والوطن، والوطن وحده؛ ولا ترتكز على الأعداد ولا تستمد قوتها وقوّتها من الخارج. ولا شك أن كل محاولة لإزالة المارونية من المشهد السياسي تنطلق من الصراع على السلطة وما هي إلا نتيجة لتصرفات وسلوك الموارنة، شعباً وقادة. فالشعب بأكثريته انزلق نحو حياة مختلفة لا ترتقي إلى مستوى التضحيات التي قدمها أسلافه ولا تنسجم مع مفهوم المقاومة والحرية. أما القادة فإما طغى عليهم التردد والاستسلام أو تقاتلوا.
وبصرف النظر عن الأعداد، يختصر نضال الموارنة والمسيحيين ودورهم من أجل الكيان اللبناني في دولة لبنان، إذ ليست المارونية السياسية وليدة الصدفة ولم تولد من العدم؛ بل هي حصيلة مسيرة تطبعت بتجارب قاسية وأليمة مرفقة بممارسة فكرية سياسية ومقاومة صلبة. ومعها تجسّدت فكرة الاستقلال وولدت صيغة التعايش. وتصدّى الموارنة والمسيحيون لكل أنواع الاحتلالات ، وحافظوا على الهوية اللبنانية وخصوصيتها. ومن خلالهم تطورت الطباعة والكتابة والتعليم في الشرق. كما انتفض على الإقطاع في جبل لبنان وحافظوا على لبنان بحدوده التاريخية وثبّتوا أطرافه الأربعة. هذا بالإضافة إلى التصدي لمشاريع ضمّ لبنان المستقل إلى كيانات سورية وعربية، وقوضوا كل المحاولات لتغيير النظام اللبناني والذين واجهوا مشروع الوطن البديل، وتصدوا لمن اعتقدوا أن طريق القدس تمرّ بجونيه.
والأهم من كل ذلك، أن شهداء الموارنة سقطوا على أرض لبنان وفي سبيل لبنان، ولبنان فقط. كما يقول الدكتور شارل مالك "إن مصير لبنان يقع بالدرجة الأولى على عاتق الموارنة"؛ وإن أي تغيير سياسي في البلد يبدأ لدى الموارنة وينتهي عندهم، لأن قيام الدولة وتطويرها نتيجة المصير والمسار الماروني، إمّا حيث أخذها بطاركة الاستقلال الأول والثاني الياس الحويك والكاردينال مار نصر الله بطرس صفير والرئيس فؤاد شهاب، أو إلى حروب الإلغاء وصراعات محاور الموت والتفاهمات الشيطانية. لا تعني محاولات التحايل على الموارنة وتقليص وجودهم الجغرافي والسياسي إلا انهيار لبنان السياسي وإعدام الدولة اللبنانية وضرب ضمانة وحدتها. الموارنة شهادة للشرق والتعدد الإنساني ودعوة مستمرة إلى الحريّة. وهنا لا بد من الاستشهاد بقول للبطريرك صفير "نحن قومٌ أحببنا الحرية ومن دون حرية لا يمكننا أن نعيش" لنضيف ونقول إننا مقاومون بالفطرة وعشّاق للحريّة "لتبقى لنا الحرية التي إذا عُدمناها عُدمنا الحياة"... والمسيرة مستمرة.