بيروت عاصمة الشّرائع، زحلة جارة الوادي، جبيل مولد الحرف، صيدا قلعة الصّمود، طرابلس مدينة الفيحاء، بعلبك دار الشّمس، الأرز دير الرّبّ... وكم تطول لائحة الرّسمات الّتي أبدع الخالق في رسمها، وفوق تلك اللّوحات يحلّق طائر الفينيق، يبسط جناحيه، حاضناً مساحة صغيرة متواضعة من العالم، أطلق عليها تسميات عديدة منذ فجر التّاريخ، ومهما دامت المثابرة، تحُّطُّ أخيراً على عنوان اسمه "لبنان".
يكاد مسار القطار يجول على سكّة تعبر أرض الوطن، فلا شكّ أنّ محطّاته بقع يتوِّجها تراث خالد لا تمحوه ذاكرة. فحان وقت توقّف القطار في جنوب لبنان الّذي ذاق من الويلات الكثير على مرّ الزّمان، ولكّنه يبقى ولا يركع لا أمام عدوّ داخليّ ولا خارجيّ يُجذّر بسكّانه، مهما ازدادت المصاعب. توقّف هذا القطار في مسقط رأسي، باسم اكتفى بتوضيح ذاته فتكتمل أجزاؤه بسلسلة من عيون متفجّرة من المياه تنبع لتروي سكّانها على الدّيمومة. فيبرز القول المعتاد:" مرجعيون ترحّب بكم".
بقدر ما جمعت مرجعيون من القرى في نطاقها أضحت في مرتبة قضاء يتوسّط عدّة أقضية تابعة لمحافظة النّبطيّة. ويصحّ التشّبيه بالقول أنّ جديدة مرجعيون هي منارة القضاء، كأنّ النّاس يجلسون على شرفة تشاهد عالياً شموخ جبل الشّيخ أحد عمالقة سلسلة جبال لبنان الشّرقيّة، الّتي تحجب خلفها غضباً بدأ منذ بضع سنوات، بل شوّقتنا في انتظار الشّروق لنواطير اللّيل والنّهار. وإن مددنا رأسنا للخلف يتّكأ، يعني أنّه حان موعد الغروب حتّى لقاء آخر. وهكذا دواليك نستفيق وننام قبالة سهل من مواصفاته الكرم تجاه أهله، مرج ممتدّ على حفنة من الأحداث العسكريّة القديمة دفنت مع رحيل أجدادنا، لتبذر بدل منها صفوف من الأشجار.
يُعرَف سكّان مرجعيون بلباقة فائقة أذهلت زوّارها الغرباء من حيث يأتون، كأنّهم جيران من ذات الحيّ. وبالطّبع لا تنفكّ عطور الزّهور المحيطة بالبيوت الجبليّة تتعانق مع روائح الولائم الّتي تحضّرها ربّة البيت من جهة، وتوازيها من جهة أخرى الجلسات اللّامتناهية، فالمرجعيونيّون اشتهروا، زياراتهم هبة ومحادثتهم موهبة، تحت سقف الاحترام. كان الدّرس واضحاً، تزورونا مرّة، تعاودون الزّيارة من جديد، دون أن يحلّ الملل.
ختاماً، ولو أنّني أمدح أكثر ممّا ينبغي لأنّ "شهادتي مجروحة"؛ أن تكون مرجعيونيّاً يعني أنّك حافظت على قيمة التّعاون أيضاً. كيف لا، وباتت البلدة عائلةً جمع أفرادها بقدراتهم المهن والحرف والعيش المشترك بين الطّبقات الاجتماعيّة المختلفة، فتدوم الحياة اليوميّة بالعمل والاجتهاد، مع العلم أنّ الأوضاع الحالية تعدّ متضرّرة، لكنّ روح المثابرة وجدت لاستهلاكها حتّى تفرج كصباحِ فلّاحٍ في المرج، أو ظهيرة سيّدة تقوم بأعمال البيت، أو مساء موظّف وموظّفة يتمّمان واجباتهما. فالكلّ يستند على العمل ليحصد الرّاحة.