تسارعت الأحداث منذ ثورة 17 تشرين الأوّل 2019 في لبنان، لتكشف فضائح الفساد الذي استشرى في دولتنا الكريمة والذي طاول جميع فئات المجتمع اللبناني من دون تمييز: غني أو فقير، مسلم أو مسيحي. فقدنا جميعًا القدرة على التحكم بمدخراتنا المصرفيّة؛ خسرنا جميعًا وظائفنا وأبواب رزقنا؛ وقعنا جميعًا في فخ الغلاء الفاحش. لم تستثنِ الفاجعة القطاعات، وأكثرها تضرّرًا هما قطاعا التعليم والاستشفاء.
بدأ الجميع يسعى إلى الهجرة ولاسيّما الشباب الذين تدمّرت أحلامهم في وطن لم يترك أي أمل بمستقبل واعد. ثمّ أتت فاجعة تفجير مرفأ بيروت، وكأن الشعب اللبناني لم يسأم المصائب والنكبات. فتدمّرت العاصمة واختُطفت أرواح اللبنانيين، وماذا بقي لنا؟ السلطة الحاكمة فرّطت في قيمة الإنسان. كنّا نعلم بالفعل أنّ الفساد الطاغي في لبنان كبير، لكن لم يُخيّل لنا أبدًا أنّ الإهمال وصل إلى هذا الكمّ!
بعد حادثة مرفأ بيروت، نزلت إلى المناطق المنكوبة مع رفاقي في حزب القوّات اللبنانيّة ومواطنين آخرين وجمعيات عديدة من مختلف المناطق، لمساعدة المتضرّرين. رأيت عجوز تقف على شرفة منزلها المدمّر بالكامل، فطلبت منها أن تختبئ داخل المنزل لتفادي أي خطر على حياتها، ريثما أهمّ لإجلائها منه. فتفاجأت بصاحب محلّ تجاري يوقفني قائلاً: "إذا طالع عند تيتا روزي ما تتعذّب. بالحرب كانت توقف عالبلكون تحت القصف وما حدا قدر يقنعا تترك بيتا، لا البلديّة ولا الدفاع المدني".
هذه عيّنة صغيرة عما رأيته في شوارع بيروت: هناك من يرفض الخروج من المنزل المدمّر الذي ورثه عن أجداده رغم الأوضاع الاقتصادية الصعبة؛ وهناك من يصمّم على إعادة إعمار بيته المنكوب والبقاء والصمود. أمام هؤلاء الأبطال، وقفت مخجولًا من نفسي ونادمًا على كلّ لحظة فكّرت فيها بالهجرة. نحن الذين لا زلنا نعيش في منازلنا الجميلة قرب أحبابنا وعائلاتنا، كيف نفكّر في الهجرة في وقت أكثر المتضرّرين في انفجار مرفأ بيروت يعزمون على البقاء؟
لطالما وقع لبنان في أزمات وحروب واضطهادات جمّة عبر التاريخ، ولم يصمد سوى من خلال قلّة قليلة في مجتمعه، حضرت على المقاومة والتضحية من أجله. منذ حرب الـ1975 وهذه القلّة تجسّدت في حزب القوّات اللبنانيّة، الذي قاوم الغزوات والاحتلالات كافة دفاعًا عن هويّة لبنان ومجتمعه. كما قاوم بعد الحرب عبر التظاهر والكلمة الحرة في زمن السلم، ليدفع ثمنها أيضًا شهداء ومعتقلين وقمع.
اليوم لم ولن يتغيّر شيء! وطننا محتلّ من قبل سلطة فاسدة ولن أتركه بين أيديها. نعم لقد قرّرت أن أكون فردًا من أفراد القلّة القليلة في هذا المجتمع، لأقاوم من أجل قيام الجمهورية اللبنانية القويّة. نعم أنا باقٍ هنا!