بين الحلم والواقع، ثورة. بين الحرية ونبض الاستقلال وسلاسل الذلّ وصوامع الظلم، ثورة. بين العيش الكريم في لبنان بسهله وجبله، والعيش في مستنقعات اليأس وكهوف الخوف، ثورة. بين القلم الحرّ الذي عشق دم الشهادة وبندقية الاحتلال الذليلة، ثورة.
إنها الثورة التي جمعت كل تلك الأفكار ليصبح الواقع مسرحًا للحلم، وتصبح الثورة في الواقع حقيقة وليست حلمًا... الملفت في التاريخ أنه حيث نجد الحرية بمفهومها سنجد الثورة، فلا ثورة إلا للحرية ولا حرية من دون ثورة. إذًا، عن أي ثورة نتكلم؟
إنه يوم الكرامة، إنّه الرابع عشر من آذار 2005، وبلحظة اجتمعت مفاصل التاريخ اللبناني بمعظم مكوناته التي وحدت رؤيتها نحو وطن "حر، سيد، مستقل". بلحظة اختُصر تاريخ وطني. بلحظة سمعنا مبادئ الياس الحويك وحلم بشير الجميل وفكر كمال جنبلاط. بلحظة تراءى فخر الدين في تلك السّاحات مبصرًا مجد شعب أراد الحرية. هذه اللحظة التاريخية التي شهدتها بيروت، أم الشرائع التي كانت نبض حرية تحت عنوان "ثورة الأرز". تلك الثورة التي تجلت في وجهين: الوجه السياسي والوجه الشعبي.
في الشق السياسي، وبالعودة إلى الظروف الزمنية المحيطة، كانت ثورة الأرز وليدة تقارب سياسي بين مختلف الأحزاب السيادية. فأطلقت الصرخة مع بيان المطارنة الموارنة عام 2000 الذي جسد تضحيات فئة كبيرة من اللبنانيين التي منذ عام 1975 رفضت الخضوع ورفضت الذل. ومع انطلاق لقاء قرنة شهوان عام 2001، وتبعها مصالحة الجبل في آب 2001 التي أرست على التقارب الدرزي-المسيحي. أما عام 2004 استقال الرئيس رفيق الحريري من رئاسة الحكومة وبقي متمسكاً بمواقفه الوطنية حتى يوم استشهاده في 14 شباط 2005. هذا التاريخ أشعل نار الشارع وكسر حاجز الخوف، فكانت ثورة الأرز المليونية.
أما في الشق الشعبي الاجتماعي، فولدت ثورة الأرز من رحم الظلم والدم والتضحيةـ وانبثقت من تلك الأحياء والشوارع التي قاومت الصواريخ السورية باستبسال، لأن ثورة الأرز فكر وحالة تمرد في كل ذهن لبناني حر. لم يعد الفكر اللبناني يحتمل النظام الاسدي الجشع، وقرر قلع أنياب الأسد وسط ساحة بيروت، ساحة الشهداء، حيث يسقط الشهيد، ليبقى الوطن.
لم يكتفِ النظام السوري بسياسته القمعية، بل أرهق الشعب اللبناني الحر بتنكيله. لذلك لا بد قبل الكتابة والتذكار، أن نقرأ قصص الأبطال التي شربت أرض بيروت الحرة دمائهم، وأن نقرأ حكايات شهداء في كل منزل تنذر دومًا أن في كل مرة لبنان يكون بخطر نكون نحن للشهادة. لقد ذاق هذا الشارع الأليم الذي خرجت من رحمه الثورة علقم الاحتلال والتردي الاخلاقي للمحتل. وعانقت الثورة الوطن كمَن عانق الموت في أعالي القمم تحت الثلوج فداء للوطن.
لا بد في النهاية أن يصدر التاريخ حكمه، فالشعب الذي أراد الحياة لا بد أن يستجيب له القدر، لنؤكد من جديد أن الكل سيرحل ويبقى الوطن. ذكرى هذه الثورة لا تزال موجودة في باطن كل لبناني حر، فهل من اقتلع أنياب الأسد من قلبه يومها سيستسلم لجشع الفساد وأنياب الجوع اليوم؟ هل يمكن أن نترك لبنان اليوم ونحن من رأينا الأبطال يشربون كأس الشهادة لنبقى رافعين نخب الوطن؟
من راهن يومًا على المعادلات السياسية لإسقاط ثورة الأرز لم يدرك أنها تمثل كرامة شعب، فكيف لشعب أن يبدل كرامته؟ ثورة الأرز لم تمت والشعب الذي ثار يومها هو من سينتشل لبنان من قعر هذا البئر.