لطالما كانت البطريركية المارونية حامية الدولة والشرعية وهمها الإنسان؛ ففي ظلّ الضغط الاقتصادي والجوع والفقر الذي فتك بأهل البلد، كان لا بد من البطريرك الماروني التحرك لوقف النزيف الذي يسيل من عروق الشعب اللبناني. واعتُبر طلب الحياد الإيجابي سبيلًا سياسيًا ودبلوماسيًا فعالًا للنهوض في البلد وتحييده عن الصراعات الدائرة في المنطقة التي يرزح تحتها لبنان. وكل هذا بعيدًا عن الكيدية السياسية أو التهجم على أي طرف كان.
كما كان هذا الطلب صوتًا صارخًا في صدى العالم، وقلب الموازين وأثّر بشكل كبير على الساحة اللبنانية التي كانت شبه صامتة في وجه الانهيار الحاصل والمنحى الذي أخذت به السلطة الحاكمة البلد. لذا ما كان للشرفاء والوطنيين إلا التوجه إلى البطريركية والوقوف إلى جانبها داعمين الموقف الصادق معتبرينه حبل النجاة من المأزق الذي جرّ حزب الله وحلفاؤه البلد إليه.
ويكمن التأثير الأهم في الساحة الدولية والدبلوماسية التي لاقت تفاعلًا دوليًا حرّك السفراء العرب والأجانب نحو الصرح البطريركي لدعمه والوقوف على رأيه الذي اعتبر أهم تحرك سياسي على الساحة الوطنية منذ بدأ الأزمة.
وبالتالي، أعادت تصريحات البطريرك الراعي التوازن على الصعيد الاستراتيجي في الساحة اللبنانية. وبالرغم من أن حزب القوات اللبنانية لم يهدأ له البال ولم يقف مكتوف الأيدي في مواجهة هيمنة حزب الله، إلّا أنّ تصريحات الديمان والالتفاف الوطني حولها أبقت لها وقعًا أكبر وأقوى على الساحتين اللبنانية والدولية. وهكذا زاد الضغط على ضرورة التحرك والتشديد على أهمية إيجاد حلّ سريع وفعال لانتشال المواطنين من الانهيار الذي لحق بهم.
أما في المقلب الآخر، فستدفع كل هذه الضغوطات والتطورات حزب الله لتحرك إما للمواجهة أو للرد، مع علمه أنه لا يمكنه وضع نفسه في مواجهة مباشرة مع الداخل اللبناني، ولا سيّما في مواجهة البطريرك والقوى الداخلية الداعمة له. ومهما ستكون ردّات فعله، ستنتج منه عواقب تأخذه إلى وضع لا يحسد عليه.
وبالتالي، لجأ "الحزب" إلى الحكومة لوضعها في المواجهة ولو جزئيًا في واجهة الضغوطات مع اعتقاده أن كلّ من الرأي العام اللبناني والدولي، لا يزالان يعتبرانها تكنوقراط حيادية وتستطيع تغطيته مع رئيس الجمهورية لانتشاله من المأزق. لكن "الحزب" يدرك حقّ الإدراك أنه لا يستطيع تحييد نفسه عن نداء البطريرك أو إمالة رأسه عنه أو عدم أخذه بعين الاعتبار؛ إذ ينبغي عليه التفاعل معه من جهة، ومن دون المواجهة بشكل مباشر من جهة أخرى.
في المقابل مع استمرار المناوشات الصغيرة على جبهة الولايات المتحدة – إيران التي فرضتها أميركا في المرحلة السابقة منذ إعلان قانون قيصر، تبيّن أن الإدارة الأميركية لن تفلت يدها عن أعناق إيران، لا سيّما جناحها حزب الله ولو للحظة مع الاستمرار في الضغط الدولي عليها والحديث عن قائمة جديدة من الأسماء التي ستطالها العقوبات الأميركية من المرجح أن تتضمن أسماء لبنانية بارزة وناشطة وفعالة في إسناد حزب الله ودعمه.
والسؤال هنا، هل ستساند القوى اللبنانية مطالب البطريرك فيما يتعلق بالحياد، وتكون بالتالي في تناغم مع المجتمع الدولي، أم سيقع "الحزب" في أخطاء الرد على الحصار السياسي والاقتصادي والمالي الذي فرض عليه ويرسم سيناريو سقوطه بشكل أسرع؟