اليوم أيضًا سنبقى...
مساحة حرة OCT 22, 2020

"أصحابي عم يفلّوا، كل حدا عم يروح بطريق. مشوار المطار صار قريب، رصيفه صار حافظني، بنزل بودّع، بقعد ع طرفه، ببكي وبفلّ..."

 

لفتتني هذه الكلمات أثناء تصفّحي لمواقع التواصل الاجتماعي حيث بتنا في وطن يقف أهله يوميًا على أرصفة المطار لتوديع أحبّائهم، لا بل يقفون متسائلين إن كان ينبغي عليهم أن يرحلوا هم أيضًا ليتخلصوا من الصلبان اللامتناهية في بلد ما زال تاريخ قيامته مجهولًا.

 

ليست الهجرة من لبنان بالأمر الجديد. فمنذ كان لبنان فينيقيًا، حمل أهله الحرف وأخشاب الأرز والزراعات والصناعات وجالوا العالم تاركين أعظم الآثار اللبنانية أينما حلّوا. كما مرّت الهجرات اللبنانية بمراحل عديدة بعد أن شهد لبنان أحداث وضربات ونكسات موجعة تلو الأخرى، ثم فترات الانتقال نحو البلدان النفطية، وصولًا إلى الهجرة الكبيرة التي خلّفتها الحرب اللبنانية.

 

أمّا اليوم، فالوضع الاقتصادي اللبناني يزيد الأمور سوءً، بالإضافة إلى الأحداث السياسية والأمنية، وصولًا إلى زلزال الرابع من آب. وبالتالي، أصبح اللبناني عاطلًا عن العمل ومن دون مأوى ولا أمل ولا رجاء. وهكذا اعتبر قسم كبير من الشعب أن الحلّ الأمثل هو الرحيل، والبدء من جديد في دول تؤمّن للإنسان أدنى حقوقه، في حين أن القسم الآخر يؤمن بأن الرحيل ليس حلًّا، إنما من واجبنا البقاء والمواجهة، لأن بناء الأوطان لا يكون بالرحيل عنها.

 

يُعرف اللبناني بذكائه وقدرته على البناء والتقدّم، وربما أكبر دليل على ذلك، تسمية أغلب الهجرات اللبنانية بهجرات الأدمغة. كما استطاع الكثيرون من المهاجرين أن يقدّموا الكثير للبلدان التي حلّوا فيها، ما يعني أننا قادرون على البقاء وبناء الوطن الذي يليق بنا، وطن الحريات والتقدم والديمقراطية، وطن آلاف الشهداء الذين بذلوا أنفسهم لنبقى.

 

لقد صوّر أحدهم اللبنانيين المقيمين والمهاجرين على أنهم جناحين؛ لا يحلّق الوطن إن لم يرفرفا معًا. وهنا تبرز الأهمية الكبيرة والدور البارز الذي يمكن أن يقوم به المغتربون، ٳن من ناحية التقدمات المالية أو الخبرة والعلاقات التي بنوها مع الدول والأفراد المؤثرين في المجتمع الدولي. لكنّ الحاجة الحقيقية هي لوجودهم في الوطن وعملهم الدؤوب فيه ومن أجله.

 

وهنا لا يمكنني سوى أن أذكر دعوة الرئيس الشهيد بشير الجميل في خطاب قسمه يوم قال للمغتربين: "وفي هذا السياق، أدعو اللبنانيين المغتربين إلى العودة، إذ لا يجوز أن يفوق عدد المغتربين عدد المقيمين، ولا يجوز أن يزاحم عدد الغرباء عدد المواطنين، ولا يجوز أن يؤثر الغرباء على مصير الوطن، ويمنع عن المغتربين المشاركة في مصيره. كما أدعو الخبرات اللبنانية العاملة في الخارج إلى العودة تدريجًا لتكون سلاحًا في يد لبنان لا سلاحًا في يد الغير ضده، وإذ أوجه هاتين الدعوتين فلأن لبنان كوطن وأمة يحتاج إلى أبنائه المغتربين لإزالة الالتباس عن هويته، ولبنان كدولة وإدارة يحتاج إلى خبراته المهاجرة لملء مؤسساته وإعمار مجتمعه".

 

من هنا ينبغي علينا جميعًا التوحّد والاتفاق على فكرة البقاء في الوطن، دفاعًا عنه وعنا. وكما هبّ اللبنانيون لبناء بيروت وتنظيف شوارعها وترميم بيوتها بعد كل مرّة دُمرت فيها، هيا بنا اليوم نهبّ لبناء لبنان كلّه وترميم كل ما هٌدّم.

 

فلنرمِ حقائب السفر، وبدل التوجّه إلى بناء بلدان الآخرين على حساب تعبنا وثقافتنا وجهدنا. لنصبّ هذه الجهود في مكانها المناسب حيث ينبغي علينا بناء حقًا، وليعلم كل من يريد الرحيل أننا اخترنا البقاء. نعم، لقد بقينا رغم الظروف كلّها واليوم أيضًا سنبقى.

مساحة حرة OCT 22, 2020
إستطلاع
مجلة آفاق الشباب
عدد استثنائي
إقرأ المزيد