جلجلة بؤس وثورة حياة
مساحة حرة OCT 18, 2021

أنظمة تنهض وأخرى تجبل بتراب التاريخ، تاركة ذكراها ومبشرة بعهد من أطاح بها. وفي ظلّ هذا العبور التاريخي، تكثر الأسباب والوسائل والنتائج. المقاربة باتت أن في الحالتين المحرك واحد والوقود واحد؛ فمهما تبدلت الظروف والمواقع والعناوين، تبقى البداية من شوارع مقفرة وسجون مظلمة وموائد جائعة تجتمع كلها، لترتقي علمياً وتسمى بالضيق الاقتصادي الذي لا بدّ أن يكون وقود شعب جاع ونُكّل برزقه. وبالتالي، يُستغل الظرف وتُرسم الخطط وتوضع النقاط على الحروف، وتتبدل المعادلة ويبقى ضحيتها الإنسان أولاً ولا سواه.

 

إن استدركنا موضوعنا علمياً، وبنظرة وجيزة إلى التاريخ، لا نلمح سوى الملاحم الدموية؛ إذ القبائل في قلب عصورها استندت دائماً إلى فعل الغزو بحثاً عن موارد الحياة ومحرك الاقتصاد في كل الحقبات والإمبراطوريات بكل ما لها في الأسواق والمستعمرات لطرح حلول تحدّ من أزماتها. وفي هذا الإطار، شهد العالم حربين عالميتين في كليهما كانت الأزمات الاقتصادية محركاً أساسياً لاندلاعهما. فاستُغلّ الفقر وباتت الشعوب أسواقاً تُباع فيها الأسلحة لترتمي كلها في أحضان المعارك التي نتج عنها حكم أنظمة خدّرت الشعوب ونهبت خيراتها، أكانت شعوب أفريقيا والشركات الأوروبية أم شعوب الشرق والفكر الفرنسي والإنكليزي. والأبرز أنّ هذا النوع من الأزمات كان مغيراً في الكثير من الأحيان لمفاصل التاريخ؛ إذ استقلال الولايات المتحدة عن بريطانيا كان من إحدى أسباب أزمة الائتمان عام 1772، وكذلك الكساد الكبير عام 1929 إحدى أسباب الحرب العالمية الثانية. ولهذه اللحظة لا زلنا نتكلم عن الأزمات الاقتصادية كمسببة للحروب ومشعلة للثورات ومنتجة للدمار. لماذا؟ بكل بساطة، عندما يسود حكم الغاب تكون النتيجة كفر وجرمٌ ودمار.

 

سؤالنا يبقى كيف تنتج هذه الأزمات وما تداعياتها اجتماعياً؟

من الناحية الدراسية المهنية، الأسباب المولدة للأزمات الاقتصادية كثيرة ومتعددة، إنما تمرّ كلها في خانة الفساد والإهمال وانعدام المسؤولية عند أربابها، فتفسد الهيكلية وتصبح الأزمة وليدة احتكاك السياسات الخاطئة والإدارة السيئة. لكن طرح الأرقام وضربها اليوم يصبح بلا قيمة أمام نتيجة ملموسة ترعب البصيرة وتخدر العقول.

 

وذل وجوع وإجرام وفوضى وتكفير ونتائج لا تُعدّ تبشّر بانهيار اجتماعي حتمي. والنتيجة هي أن يصبح خبز المائدة هدف اليوم وصفيحة الوقود فخر الشباب. هذه هي حالة سويسرا الشرق لبنان حيث لن نفهم معنى الكلام إلا إن دخلنا أحيائه المنكوبة المنهوبة بعيداً عن ملاهي الليل ومحافل المقتدرين، سنرى وحش الجوع يفتك بأهل بلدنا من شماله إلى جنوبه. سنرى فلاحاً يبكي محاصيله، وأباً فارغ اليدين مطأطأ الرأس عائداً دياره حزيناً. سنسمع كفراً من القهر والتعب، ولا بد أن نشهد الجرم فتمتلئ السجون من أشخاص ظلمتهم الحياة وباتوا ضحية الجريمة. كيف لا ونحن اليوم نشتهي الموت بسبب بؤس الحياة. هذا هو حالنا؛ حال اقتصاد قد انهار وجعل من الوطن مساحة لدفن الأحلام والاماني في عهد نكّل بشعبه وهجّره منذ زمن، وجمع جنده ضحايا في حفرة من الذل. واليوم يعيد الكرة ويجمع أحلام الشباب في قبر واحد. وبات المقتدر يزيد اقتداراً والفقير يزيد فقراً والحياة تجري وترفص معها ضحايا لكل منهم قصة، ولكل قصة دمعة ترويها.

 

بد أمام هذه النتائج البائسة والمنعدمة والمبكية، أن نقف مقاوميين وشجعان وصامدين قادرين على الجوع والذل والجرم والكفر. لا بد أن ندرك ألا يجب أن نحرق وقوداً لنؤمّن العبور إلى أنظمة لا تحمل من قيمنا وهويتنا ومبادئنا شيئاً. لا بد أن ندرك أن الثورة لا يمكن أن تولد إلا من رحم الأحزان.

 

لسنا أوّل شعب يواجه مصير الموت، إنما الأكيد أننا سندخل التاريخ من بوابة المقاوميين الأحرار الذين لم يرضوا التخلي عن هوية أرزهم وانتمائهم وأرضهم. الأكيد أننا داخل سفينة وفي قلب العاصفة، فثمة تشاؤم وهرب، وثمّة مَن خان وارتمى بأحضان القراصنة وسلّم قدره للقدر. أما الأكيد فهو ثمّة مَن ضبط الأشرعة وأمسك بالقيادة وصمد وقاتل حفاظاً على سفينته. مهما كانت نتائج الأزمة الاقتصادية، نحن شعب من الرماد ننهض وقاموسنا لم يعرف يوماً معنى الاستسلام والموت. نحن شعب يمشي اليوم جلجلة فقره وعوزه وبؤسه، إنما من رحم أحيائه ستولد ثورة الحياة.

مساحة حرة OCT 18, 2021
إستطلاع
مجلة آفاق الشباب
عدد استثنائي
إقرأ المزيد