"الشعب يريد ٳسقاط السلطة الفاسدة"، واحدة من جملة عبارات سمعناها منذ 17 تشرين الأول بشكل يوميّ من شفاه وقلوب الشعب اللبناني الحرّ الذي طفح كيله من الممارسات اليومية للطبقة السياسية الحاكمة ظلمًا ومحكومة خوفًا، وتظلم الخاضعين للقانون وتخاف المعتدين عليه. هذه الطبقة نفسها التي حاولت إسكات أصوات الثوار بطرق مختلفة حتّى تمنعهم من بلوغ هدفهم بٳسقاط هذه السلطة الفاسدة.
بعد ثورة تشرين كما قبلها، صدح صوت "القوات اللبنانية" مطالبًا بالإصلاح، وبحال الفشل بإتمام الإصلاح المطلوب، كان بالنسبة إلى "القوات" من الضروري التوجّه نحو التغيير. وقد أكّدت الأحداث المتتالية حاجة البلاد الضرورية إلى تغيير جذري، لا سيّما بعد انفجار المرفأ الذي يكاد يكون رصاصة رحمة على سلطة مسؤولين لامسؤولين.
بعد ساعات من الانفجار، بدأت تكرّ سبحة الاستقالات من الحكومة والمجلس النيابي، وصولًا إلى استقالة الحكومة نفسها. وبالطبع كانت الأنظار تتّجه نحو معراب بانتظار إعلان استقالة نواب "القوات اللبنانية"، كون الجميع يعلم أن سمير جعجع هو دائمًا السبّاق في اتخاذ المواقف الوطنية الجريئة، إلا أن ما غاب عن البعض هو أن جرأة جعجع لا تنبع من تسرّع ولا انجراف مع التيار ولا هدفها اتّخاذ بعض المواقف الشعبوية التي تُكسبه بعض الأصوات الانتخابية، إنّما هي جرأة محبوكة ومجبولة بالمعرفة القانونية والنظرة الصحيحة إلى المستقبل القريب والبعيد.
هذه الحكمة لدى جعجع جعلته يفتح باب المشاورات على مصراعيه، مع الأصدقاء والحلفاء والقانونيين، كما فتحت عليه بالمقابل نيران الأعداء في السياسة والجهلة في القانون والمتسرّعين في القرارات. فراحت الحملات الإعلامية المسيئة له تأتي من كلّ حدب وصوب، ممّن يطالبونه بالاستقالة معتبرينها العمل الشريف الوحيد الذي يمكن القيام به، وممّن خافوا الاستقالة باعتبارها عملية طعن سياسيّ لهم. وراحت الآراء تتقاطع بين فريقين متخاصمين، يطلق كليهما النار على "القوات اللبنانية" ورئيسها "الحكيم".
وفيما هم يتلهّون بالسجالات والاتهامات، كان حزب القوات اللبنانية قد بدأ العمل على الأرض لمساعدة المنكوبين بالإضافة إلى عملها السياسي. لكن بعد ساعات طويلة من المشاورات والدراسة، لم يستطع جعجع التوصّل مع أطراف أخرى إلى استقالة جماعيّة تفقد المجلس النيابي شرعيته وتؤدي إلى النتيجة المطلوبة، أي انتخابات نيابية مبكرة يحصل بعدها تغيير جذريّ بطرق الحكم في لبنان مع تغيير الطبقة الفاسدة ورحيلها عنّا.
لم تنجح فكرة استقالة المكونات الثلاثة المعارضة لحزب الله، أي "القوات" و"المستقبل" و"الاشتراكي"، فأكمل جعجع دراسة خطوته التالية، وكعادته فضّل المواجهة الصعبة على الاستسلام السهل وقرّر البقاء ورمي نفسه في النار لإخمادها ومنعها من التمدّد وحرق كل من حولها. وكانت كلمة "القوات اللبنانية" التي رُدّدت على مرّ السنوات منذ قيام الحزب حتى اليوم: "لن نسلّمكم البلد".
ما هو الخطأ الذي ارتكبه جعجع؟ لا نعلم، إلا أننا استفقنا على حملات تخوين من جهة، واتّهامات عمالة من جهة أخرى، وأنّ "القوات" تقود المؤامرات وتدبّر المكائد... وأي ذنب ارتكبنا يا سادة؟ ألسنا في بلد ديمقراطي تعبّر فيه الأفراد والجماعات عن آرائها بحرية وديمقراطية؟
نحن لسنا قومًا يرغب في لعب دور الضحية إلا أننا نعلم شراسة المعارك المعنوية التي علينا خوضها، وأن كل الحروب لم ولن تكسرنا، فـ"القوات" صوت الناس، ونواب "القوات" مؤتمنون من قبل الشعب وسيحافظون على الأمانة. وربما التعبير الأصدق لحقيقة مقام سمير جعجع في قلوب الناس وضمائرهم – وهو ما يهمّنا حقًا - يتجلّى في كمية الحب البنوية في الأشرفية التي قوبلت بها زيارة جعجع الراغب في الاطمئنان عن الناس. فقد استقبلوه استقبال رؤساء الدول العظمى في حين كان غيره يطرد من الساحات كما طرد من القلوب.