لا شكّ أنها محطة أليمة من تاريخ لبنان، شاءت الظروف أن ينتهي فيها لبنان الحلم بعد أن أتيح لشعبه أن ينعم بسنوات من الرخاء والرفاهية، قبل أن يبدأ بالاشتعال على نار خفيفة فوق بركان يلتهب بالأزمات والويلات، في أواخر الستينيات حتى عام ١٩٧٥، ليبدأ سويسرا الشرق مساره إلى مصيره الأسود. يقال أنّها نتيجة حسد بعدما كان وطن الرسالة همزة وصل للشرق والغرب، نتيجة لحياده الإيجابي والناشط تجاه كل القضايا المحقة ومصلحة شعبه المقدسة. يقال أيضًا "تنذكر وما تنعاد"، ومن هنا لا بدّ من الوقوف عندها وتذكير اللبنانيين بوجعها وألمها ومعاناتها وأحداثها، علّهم يتعلمون من دروس الماضي…
سقط لبنان حين فرض عليه الخارج أن يتخلّى عن سياسته الحيادية، بعدما كان إلى جانب الحقّ وأهله وقضاياه، وطالب بها في أعظم المحافل الدولية، بعد أن كان مؤسّسًا وعضوًا بارزًا فيها، ودافع عنها واستنكر الظلم والظالم، احتضن المظلومين، ولم يتخلَّ عن دوره يومًا.
تحمل لبنان صليبًا أكبر منه، صليب الهلاك لا الخلاص. وكان ينتظر لبنان مشروعًا لا يشبه كيانه ومضمونه وهويّته وشعبه البتة. بل، جاء ليفرض على اللبنانيين انتماءاتهم، ويغيّر وجه لبنان الثقافي والمنفتح. فوقع خيار الوطن البديل على لبنان، بعدما سُمح لمنظمة التحرير الفلسطينية بالتمتّع بحكم وأمن ذاتي خارج عن سيطرة الدولة الحاضنة، وكأنّ أرض مخيّماتهم خارجة عن نطاق الدولة اللبنانيّة. وما أنتجته هذه الخطوة من تفلّت أمني وانتهاك لمبدأ المساواة، كما استباحة للدستور وخرق مفهوم الدولة وهيبتها في حفظ الأمن، وأرض خصبة للاستعلاء على مؤسساتها الدستورية والأمنية…
لم يكن اللبنانيّون هواة حرب ولا ممتهنيها. حينها وقفوا مجبرين غير مخيّرين على حرب مواجهة للدفاع عن أرواحهم وأهلهم وأرضهم وبيوتهم، بلحمهم الحي وسلاحهم الأبيض، قبل التسلح في وجه احتلال، ومرتزقات حضرت من العالم كله، كادت أن تودي بلبنان وشعبه إلى الزوال.
انقسم اللبنانيون بين مؤيّدي المشروع منظمة التحرير الفلسطينية ومعارضيه، ونشبت الحرب اللبنانية بين أبناء الوطن الواحد، وانزلق لبنان في حمام الدم وبدأ بالتمزق في حرب عانى اللبنانيون الأمرّين. كان الأعداء خلالها يحدّقون بلبنان وشهواتهم تدغدغ غرائزهم. تحضّر نظام حافظ الأسد لدخول لبنان، قبل أن تطأ قدمه على أرضه بعد سنة من اندلاع الحرب التي دامت خمسة عشر سنة، بشرعية دولية زائفة، مضمونها حفظ الأمن. في الواقع، مكّنه هذا التزييف من تطبيق أهوائه ونزواته، وتكريس اغتصابه للبنان لمدّة ثلاثين عامًا، بجيشه ومدرّعاته وأسلحته واحتلاله، وقضى على كلّ مفاصل الدولة المتبقية.
مارس نظام الوصاية استبداده وطغيانه، واستولى على نظام الحكم في لبنان واستباح الدستور، وتحكّم بالحياة السياسيّة والإعلامية وقمعها، ومارس إرهابه وديكتاتوريته وإجرامه على الشعب إلى أقصى الحدود، حتى أمسك بالوضع الداخلي كاملًا. فأسفرت الحرب عن عشرات آلاف الشهداء والضحايا ومئات آلاف الجرحى والمعوّقين، وآلاف المفقودين والأسرى ومئات آلاف المهجّرين. لكن على عكس أطماعهم، بقي لبنان…
استبسل اللبنانيون في الدفاع عن وطنهم ضدّ أطماع قوات الاحتلال، وتنظيماتهم الإرهابيّة، دافعين أثمانًا باهظة ليحافظوا على وطنهم. عمل الاحتلال دائبًا على تدمير النفوس قبل الحجر وزرع الأحقاد والفتن على أنواعها بين أبنائه. ولا زالت جراح الحرب حيّة.
انتهت الحرب، لكنّ كابوس اللبنانيين لم ينتهِ بعد، وما زالوا تائهين في دهاليز مشاكلهم السياسية اليومية. علّ اللبنانيّون يتعلّمون من التاريخ ليختاروا قضيّة وطنهم بدلًا من كلّ قضايا الخارج؛ علّهم يوفّرون على أنفسهم دمار ودماء وعناء من جديد، دافنين كلّ أشكال التشدّد والتعصب والفتن، وداعيين إلى الاعتدال والتعايش والانفتاح بين أبناء المجتمع، ومتّحدين ومحيدين أنفسهم عن كل الصراعات الخارجية، لأنّ بالحياد وحده يحيا لبنان… فليحيا لبنان!