إعتاد الشعب اللبناني في الآونة الأخيرة على بعض المصطلحات التي تداولت مرارًا على مسمعه: عجز في الخزينة وتدهور اقتصادي وضائقة مالية ونقص في المواد... وذلك كلّه كان قبل جائحة كورونا التي اجتاحت العالم وفرضت عوائقها العديدة من دون إذن أو دستور. أمّا في ظلّ هذه الأزمة، فتغيّرت هذه المصطلحات، لأنّ العجز أصبح انعدامًا كليًّا، والأزمة أضحت كارثة والتدهور ارتطم في قعر اللّاعودة، ونقص المواد بات اختفاء. أودت هذه الأزمة بالقطاعات في هاوية لا مفرّ منها، وكان التأثير الأكبر على القطاع الصناعي الذي حُدّ أو شُلّ نشاطه بسبب عوائق عديدة، بعضها ولّدته الأزمة المالية بذاتها، والبعض الآخر كان يعانيها القطاع الصناعي في لبنان منذ نعومة أنامله.
التحديات المباشرة للقطاع الصناعي في لبنان
تحول جملة من التحديات المباشرة دون تقدّم قطاع الصناعة في لبنان:
- ارتفاع كلفة الإنتاج واليد العاملة الوطنية،
- قلّة المناطق الصناعية وانتشار بعضها في المناطق المسكونة،
- عدم توفر البنى التحتية الملائمة لها التي تُسهّل عمليّة تطويرها،
- عمليات التهريب عبر المعابر الحدودية،
- غياب الدعم الحكومي للمؤسسات الصناعية،
- العوائق القانونية والتشريعية الجمّة،
- غياب التسهيلات الجمركية والضرائبية المباشرة على المواد الأولية والنفط والطاقة الكهربائية.
كلّ ما ذكرناه سابقًا يضع الصناعات اللبنانية عرضة للمنافسة غير المشروعة وغير المتكافئة في وجه المنتجات الأجنبية المستوردة. وليست هذه العوائق سوى عيّنات عن الواقع المرير الذي يتعايش معه القطاع الصناعي في لبنان. أمّا الانحدار الاقتصادي الذي شوهد في الآونة الأخيرة، فقد كان كفيلًا لزيادة الطين بلّة! إذ لم يعد القطاع الصناعي قادرًا على تأمين المواد الأولية، كونه يعتمد على استيرادها من الخارج بالعملة الصعبة أو الدولار، الأمر الذي عثّر عمليات التصنيع.
التحديات المباشرة أمام القطاع الصناعي
أوّلًا، لم ينعم لبنان بتاتًا باستقرار أمني واقتصادي دائمين، بل ما يبرح ينشط من جديد إلّا ويصطدم بحافة غير متوقعة: إحتلالات وحروب، صراعات وزعزعات أمنية، وتدهور اقتصادي وعقبات مالية شتى. ليست هذه الحالة غير المستقرّة أرضًا خصبة لجذب استثمارات خارجية ومحلية مهمة، لأنّ المستثمرين لا يحبّذون المخاطرة برؤوس أموالهم في بلدان يدركون أنّها تعيش على هامش التصدع يومًا تلو الآخر.
من جهة ثانية، يعمد بعض المستوردين على إغراق السوق بمنتجات مماثلة للصناعة المحلية وبأسعار بخسة، لأنّ الحكومات المتعاقبة فشلت في تحديد سياسات اقتصاديّة صارمة لحماية الإنتاج المحلي. كما فشلت في تطبيق مفهوم "العين بالعين" بالتبادلات والاتفاقات التجارية الدولية التي تقتضي برسم خطوط العلاقات التجارية المتبادلة وحدودها وأسسها وقواعدها.
من ناحية ثالثة، ارتفاع أكلاف التصدير إلى الخارج والتدخل السياسي في سوق الصرف واحتكار غالبيتها. وأخيرًا، تصعب على القطاع الصناعي عملية التطوير الذاتي، لأنّ التسليفات الموجهة إلى هذا القطاع ضئيلة الحجم، مقارنة بالقدرات المتاحة والحاجة إلى التطوير.
المواطن والصناعة المحلية
انعدام ثقة المواطن بالمنتوجات المحلية ليست مفاجئة أبدًا، ولا سيّما بالمنتوجات الغذائية. فمع تبيان الجودة المزرية لبعض المنتوجات المصنعة محليًا وخاصة في الآونة الأخيرة، يهلع المواطن لصحة عائلته ويختار المنتوجات الأجنبية لأنّها "آمنة أكثر". أضف إلى ذلك، تعوّل على الصناعة المحلية رفع أسعار منتوجاتها، فتصبح أحيانًا أكثر بكثير من البضاعة المستوردة، وهكذا يخسر المصنع اللبناني زبائنه لصالح الصناعات المستوردة.
الصناعة في لبنان عدم... فهل انعدم الأمل؟
على الرغم من كل هذه العوائق التي تواجهها الصناعة اللبنانية اليوم، إلّا أننا نجد طاقة صغيرة تبعث فسحة أمل بوطن صامد، أو على الأقلّ قادر على تلبية حاجات أبنائه من دون استيرادها. إذ لم يستسلم اللبناني لأمره، بل مع كل زيارة جديدة لمتجر ما، ثمّة سلع جديدة بجودة لا بأس بها تعلو الرفوف، وبكلّ فخر صنعت في لبنان. ونجحت بعض الصناعات اللبنانية في لعب دور البديل لدى المستهلك اللبناني، وبذلت أقصى جهودها لاكتساب ثقة اللبنانيين، من خلال تقدمة سلع محلية بديلة للسلع الأجنبية وبجودة لا تقلّ شأنًا. وقد شملت هذه الصناعات أصنافًا عديدة، كالمواد الغذائيّة وأدوات التنظيف من معقمات ومطهّرات، وبعض السلع التي يحتاج إليها المستهلك في هذه الأزمة من كمامات وقفازات وغيرها من الأصناف.
لم تقتصر مبادرات القطاع الصناعي على تزويد الأسواق بالمواد المنزلية والشخصية، فقد دخل لبنان عالم صناعة المستلزمات الطبية، من خلال روبوتَيْن طبّيّين وضعهما حزب القوّات اللبنانية في تصرّف الطاقم الطبي يؤمنان السلامة للطواقم عبر إعفائها من الاحتكاك المباشر مع مرضى مصابين بالكورونا. وصُنعت بعض أجهزة التنفس بالمعايير الدوليّة السليمة، وذلك بمواد متوفرة في الأسواق المحلية.
اللبناني المبادر!
أثبت القطاع الصناعي اللبناني أنّ البلد غير عاجز، لأنّ عددًا من اللبنانيّين بذلوا جهدًا للتعويض على اللبناني. وشمل هذا الأمر مبادرات فرديّة لا تُحصى سوّقت لنفسها عبر مواقع التواصل الاجتماعي، ومنها:
- إعداد المؤن والمنتجات الطبيعية،
- تحضير الوجبات اليومية الطازجة،
- مبادرات شراء وتنقية وتنظيف الخضار والفاكهة،
- صناعة الحلوى واللقوم،
- تحضير حلويات المناسبات،
- صناعة مواد التزيين،
- الأعمال اليدويّة: فخار وكراسي القشّ واللّيف والحليّ والملابس.
في نهاية المطاف، تحطّ الأزمة بوطأتها على الجميع من دون استثناء، لكنّ إيماننا بالعلم وقدرات الشباب اللبناني وعزمهم على الصمود لم ينفكّ يولد فينا الأمل بلبنان الحلم، في قلب لبنان الشاب النابض للأفضل، ''فما أضيق العيش لولا فسحة الأمل''!