غالبية ثورات العالم تمحورت حول فكرة واحدة وهي "حق الشعوب في تقرير مصيرها". ومن هذا المنطلق يأخذ التاريخ ديناميكيته، ويشهد فترات حروب ودمار تليها أيام سلام والعكس صحيح. جماعات تستبيح غيرها محاولةً السيطرة، في حين أن البعض من تحت نير الآخرين يرفع الراية ويقاوم. وفي خضم كل هذا يقبع الاستقلال.
فما علاقة لبنان بالاستقلال؟ الاستقلال يعني التحرر من أي سلطة خارجية وعدم التأثر بها. أما نحن اللبنانيون أو جماعات في هذه المنطقة الجغرافية، فنادينا بالاستقلال طويلاً وحصلنا على إدارة ذاتية في أيام العثمانيين على جبل لبنان لقاء دفع الجزية، لكن هذا الحلم ظل يراود هذا الشعب الذي أبى أن يبقى تحت الانتداب الفرنسي فطالب وناضل وحصل على استقلاله عام 1943.
نعِم لبنان بفترة سلام عند استقلاله وأصبح قبلة الشرق والغرب وازدهر بشكل ملحوظ حتى لُقب بسويسرا الشرق. لكن سرعان ما بدأ يتضعضع صفه الداخلي من خلال تأثر بعض الجماعات فيه بالخارج، وبذلك سمحت لسلطات خارجية بالتدخل والعبث بالساحة الداخلية. فكان عبد الناصر والوحدة العربية وتبعته في لبنان ثورة الـ1958، تلتها الأعمال المسلحة الفلسطينية وشرعنة الفدائيين في الـ1969 مع اتفاق القاهرة الذي أدى بعد اتساع الشرخ الداخلي وانهيار المؤسسات إلى اندلاع الحرب اللبنانية.
خرج جيش الاحتلال السوري عام 2005 من لبنان وظن اللبنانيون أن استقلالهم عاد من جديد؛ لكن سرعان ما أدركوا أنهم بعيدين كل البعد عن تحقيق منالهم هذا. فأتت مئوية لبنان في هذا العام الحزين من دون شعور اللبنانيين لا بالاستقلال ولا حتى بوجود جمهورية فعلية ساهرة على شؤونهم وشجونهم.
وإذا ما أردنا معرفة السبب لاكتشفنا أن الخلافات بين اللبنانيين كثيفة متعددة وعميقة وجوهرية تضرب الكيان اللبناني الذي أصبح بخطر، لأن الشراكة الإسلامية المسيحية متصدعة، وما زاد الطين بلة وجود اللاجئين والنازحين على أرضه بأعداد ضخمة ليس باستطاعته تحملها. أضف لذلك طمع البلدان المجاورة به إن كانت إسرائيل أم سوريا.
أما النتيجة فهي أن لبنان يترنح بين الوحدة والانقسام وخسر دوره الريادي في نهضة الشعوب وأصبح دولة مشرعة فاقدة الوزن والاستقرار. ويبدو أن جميع الحلول والتسويات فشلت لأنها لم تحترم الخصوصية الحضارية للمجتمع اللبناني وها نحن اليوم بحالة التفكك هذه. أسئلة كثيرة في انتظار الإجابة عنها: هل مات لبنان؟ أم أن الجمهورية فقط تلفظ أنفاسها الأخيرة بانتظار ولادة نظام جديد؟ هل يوجد حل لهذه المعضلة؟
في هذا الديجور القاتم أتت مبادرة مِن مَن بيده مجد لبنان. فأطلق البطريرك حلاً للأزمة اسمه "الحياد". أهمية الحياد أنه يعيد تثبيت الاستقلال ووحدة لبنان المفقودة ويجعله مستقراً ويضعه في مكانه المناسب كدولة مساندة وليس دولة مواجهة.
فواقع الحال أن لبنان بات عصياً على الحكم وأن لبنان الذي نعرفه يموت، فلا تحالف ينفع ولا تسوية تنفع. ساعة الحقيقة دنت، إما المزيد من الضغط والانهيار وإما العبور نحو الحلّ المتمثل بالجمهورية الثالثة، جمهورية الحياد الناشط. وعليه، نردد مع غبطة أبينا "لا استقلال من دون حياد".