بدأت مؤخراً قراءة كتاب "1984" للكاتب جورج أرويل المعروف بالتوجه السياسي لكتابته. يصف أورويل في كتابه مستقبلًا افتراضيًّا يحكم فيه حزب واحد دولة اسمها اوقيانيا تضم الولايات المتحدة وأستراليا وجنوب أفريقيا. يتحكم هذا الحزب بشكل دكتاتوري متوحش بحياة الناس وعقولهم من دون اعتراض أو تشكيك واسع، بل تقبل الأكثرية معظم توجهات ودعاية الحزب وتصدقها تصديقاً كاملاً. وجدت القصة في بادئ الأمر غريبة جداً وبعيدة عن كل منطق، إذ لا يعقل لشعب أن يُحكم بهذه الطريقة؛ ليس لعدم إرادة الحكومات بل للحد الأدنى من الذكاء والمنطق لدى الشعوب. أكملت القراءة بالرغم من شكي في إعجابي بالسرد والخيال وغير مقتنع بأي هدف سياسي للكتاب، حتى بدأت شيئاً فشيء ألاحظ تشابه عقيدة الإنغسك (الاشتراكية الإنكليزية ingsoc) -وهي عقيدة الحزب الحاكم في أوقيانيا- بتصرفات بعض الأحزاب في لبنان.
يعتمد الحزب الحاكم تشويه الماضي وتحويره لصالحه طامساً كل وثيقة تناقد حاضره حتى يصبح الماضي ما يريده الحزب ويقبله الشعب كحقيقة تاريخية. مثل سحب الكتاب البرتقالي من الأسواق أو طمس تصريح بأن المسيحيين شوكة في خاصرة المسلمين، أو اعتبار شركة ممتازة في يوم وإعطائها جميع المناقصات ثم التبرؤ منها حتى تصبح رمز الفساد، أو الحقيقة التي يقبلها بعضهم بأن القوات اللبنانية حليفة سورية.
كما إن تحالفات الإنغسك دائمة التبدل في يوم هو عدو أوراسيا وحليف إستاسيا وفي التالي عدو إستاسيا وحليف أوراسيا، لكن الملفت هو أيضاً تصديق الناس على أن هذه التحالفات لم تتغير قط. مثل حليف التحرير نفسه عدو الإلغاء، أو ميليشيا إيرانيا قبل 2005 تصبح مقاومة ذات قيمة إستراتيجية عالية ثم تعود لتصبح عبئاً إستراتيجياً، أو إرهابي الأمس رمز اعتدال اليوم، أو فاسد البارحة المستحيل إبراءه شريك اليوم رمز التوازن والقوة، أو حليف الأمس بلطجي اليوم وتكثر الأمثلة...
تطرح الإنغسك عبارة في لغتها الجديدة "التفكير المزدوج" ومعناها أن يقبل الحزبي حقيقتين متناقدتين قبولاً كاملاً من دون أي شك. قد يبدو ذلك مستحيلاً لكن يسهل فهمه مع طرح بعض الأمثلة عن السياسة اللبنانية. التفكير المزدوج هو أن تدعو إلى استعادة حقوق المسيحيين وتدعو أيضاً إلى العلمانية وإلغاء الطائفية، أو أن تعتبر عملاً في مكان ما إرهابياً والعمل نفسه بطولياً استشهادياً في مكان آخر، أو أن تطلب من مجلس غير شرعي انتخابك، أو أن تؤمن بمحاربة الفساد لكنك تقبل بفساد طائفتك لإقامة توازن مع فساد طائفة أخرى، والأغرب أن تبني كل طرحك السياسي على محاربة الفساد والمحسوبية وتعارض قانون تعيينات يعتمد الكفاءة فقط. كما أن الاشتراكية الإنكليزية تكره الاشتراكيين وتقسم المجتمع طبقياً كما الشيوعية اللبنانية تتحالف مع اليمين المتطرف والرأسماليين.
أخيراً أغرب ما في عقيدة الإنغسك هو مقولة "الحرب هي السلام"، وهي في عمقها متصلة بحالة الحرب بين الدول الثلاث في 1984 حيث هي دائمة الصراع على أراضي غير مأهولة لا فائدة من احتلالها ولا فائدة من الحرب إذ لا يمكن لأي دولة الفوز لأن الحرب تستخدم لإلهاء الناس وكتفسير لفقرهم. كذلك بعض الأحزاب هي في حرب دائمة مع إسرائيل والاستكبار العالمي والتكفيريين أو أحزاب أخرى دائماً تبحث عن عدو ترمي عليه التهم بالعرقلة والفساد لتبعد الاتهامات عنها.
ختاماً أقتبس من الكتاب "القوة هي في تمزيق العقول البشرية إلى قطع وتجميعها مرة أخرى في أشكال جديدة من اختيارك". ألذلك ينعت البعض بالقوي؟