مع انطلاق الحراك الشعبي في 17 تشرين الأول الذي حمل مطالب اقتصادية كانت الشرارة لنزول آلاف اللبنانيين إلى الشارع للمطالبة بحقوقهم، وبعد تراكم الأزمات الاقتصادية والاجتماعية، وجد الشعب نفسه أمام أفق مسدود يحتّم عليه التحرك قبل فوات الأوان وخاصةً بعد خيبة الأمل التي مُني الشعب بها بعد الانتخابات النيابية. إذ لم تحقق هذه الانتخابات أيّ من الوعود، بل على العكس ازدادت غطرسة بعض القوى الحاكمة التي كانت تمارس السلطة بأبشع أنواعها من حيث المحسوبيات وتوظيف الأزلام وتعطيل الدولة والفساد الذي تحوّل إلى سرقة علنية وقحة.
ظنّ أهل الحكم بأنّ الشعب مخدّرٌ ولن يتحرك أمام هذه الممارسات. وإذ أتى يوم السابع عشر من تشرين الأول مع ما حمله هذا التاريخ من بداية مرحلةٍ سياسيةٍ جديدةٍ في لبنان يرسمها الشعب في الشارع لأول مرة في تاريخ الجمهورية اللبنانية. وعلى الرغم من الطابع الاقتصادي المهيمن على أسباب الانتفاضة، إلا أنّه وفي بلد مثل لبنان لا يمكن إلاّ أن تدخل السياسة في كل شيء، فكيف إذا كان الواقع هو تغيير في نمط العمل السياسي؟
فكان الشباب اللبناني سباقاً في طرح العناوين البراقة التي تلفت كلّ مَن يسمعها للوهلة الأولى، وطبيعة الشباب هي التحرر من كلّ قيدٍ وممنوعٍ، ومن كلّ ما يرونه مخالفاً لفكرهم. وهذا ما يفسر توجيه بعض الشباب سهامهم نحو الأحزاب وخاصةً مع الفشل الكبير في الحياة السياسية اللبنانية بحيث بقيت معظم الأحزاب تدور في حلقةٍ مفرغةٍ تقليدية تكرّس الزعيم وتبني الحزب حول هالته. فأصبحت جدلية الأحزاب جدلية القائد عوضاً عن أن تكون جدلية الفكر الحزبي.
أمام هذا الواقع اللبناني، أعطي مثلين عن بلدان تمرّ الحياة السياسية فيها بمحطةٍ مفصلية مثل لبنان مع الفارق الكبير بين ديمقراطيات هذه الدول والديمقراطية اللبنانية. وأبرز مثال على رغبة الشباب للتمرد على نمطية الحياة السياسية هو فرنسا التي أوصلت لأول مرة منذ سنوات رئيساً خارج حزبي اليمين والسيار بحيث منيا بهزيمةٍ مذلة أمام مرشحٍ شاب غير منتمٍ إلى حزبٍ تقليدي. لكن التجربة البراقة تلك للرئيس الفرنسي الشاب لم تدم طويلاً ليكتشف أنه لا يمكن له أن يعمل في السياسة من دون حزب.
كذلك فإن تجربة الانتخابات الأميركية الأخيرة التي أوصلت رجل الأعمال دونالد ترامب إلى البيت الأبيض مدعوماً من الحزب الجمهوري من دون أن يكون ناشطاً سياسياً دفعت العديد من قيادات هذا الحزب إلى معارضته. لكن إرادة الشعب الأمريكي انتصرت لكسر جميع التوقعات وإيصال رئيس من خارج نادي السياسيين. تتعدد الأمثلة في هذا السياق لكنّ النتيجة واحدة وهي رغبة الشعوب في التجديد.
أمام هذا الواقع العالمي المتحرر والأفكار الجديدة التي حملتها العولمة كان لا بد للشباب اللبناني ان يتأثر بالمتغيرات التي يشاهدها: نزل الشباب إلى الشارع وفي عقولهم حلم تحطيم كل القيود وبناء نظام سياسي يحاكي أحلامهم، ولم يتخيّل جزءٌ كبيرٌ منه يوماً مهتماً بالسياسة أو متابعاً لشؤونها، بل كان بعيداً حتى عن عمومياتها. كما يشكل الفئة الأكثر حماساً للتغيير من دون إغفال الحركات اليسارية التي تدغدغ الثورات أحلامهم. فلن يتركوا فرصةً للنزول إلى الشارع حتى وإن لم يتطابق هذا الشارع مع أفكارهم.
في الختام، يجب أن تشكل الانتفاضة التي تشهدها ساحات لبنان، المحطة المفصلية في تاريخ السياسة اللبنانية. إذ ينبغي أن تكون الانطلاقة الفعلية للعمل السياسي السليم، بحيث يقوم الشاب المنتسب إلى حزبٍ قبل سواه بمراجعة ذاتية يسعى من خلالها للارتقاء بحزبه وتنقيته. كما أنّ دور الشباب غير الحزبي هو زيادة الوعي والثقافة السياسة في المجتمع ليكون نواة التغيير عبر تأسيس أحزاب تحمل أفكارهم أو الانضمام إلى أحزاب تجسّد تطلاعتهم للانطلاق نحو الديمقراطية الفعلية حيث أرقى أنواع التعبير عن الرأي وأساس أي تغييرٍ جديّ. والثورة في الشارع وحدها لا تكفي بل يجب تكريسها عبر الثقافة والممارسة.