منذ نشأة الكون، لمعت آية تقول أنّ الإنسان من التّراب وإلى التّراب يعود. فكيف إن كان في نفس التّراب، أيّ أنّه ولد في أرضه وبلده، بين أهله وناسه، ويكرّس الوفاء لأرضه عندما يبقى فيها لآخر نفس. وهنا نتوقّف مع مرور الزمن لنلقي نظرة إلى ما وراءنا ونستذكر من بقي ومن رحل. فبين ظرفٍ من هنا وتدهور من هناك، نجد أنّ حدود الأرض تنشقّ وتنطلق منها قوافل من بشر. هذه الظاهرة الأخيرة اعتدنا على قراءتها فقط لتصبح معلومات قديمة عرفناها خلال الامتحانات، لكن لم نكتسبها في حياتنا الشخصية والجماعية. إنّنا بالطبع نتحدّث عن ظاهرة الهجرة.
نتقدّم أوّلاً بتعريف عن الهجرة وذلك بتقسيمها إلى نوعين: الأوّل هي الهجرة داخل البلاد وتسميتها الأوضح هي النزوح، والنوع الثاني الذي ينتقل فيه الناس من دولةٍ إلى أخرى وهذا المعنى الأساسي للهجرة. كما ذُكر سابقاً أنّ هذه الظاهرة تنتج عن أسباب عديدة متعلّقة بالوضع الداخلي للمنطقة الواحدة أو البلد الواحد. ولعلّ تعداد هذه الأسباب يلفت النظر إلى إيجاد حلول جذريّة لها، فتستأصل تلك الأسباب وتنهي معها هذه الآفة. ولا شكّ أنّ تحديد الهجرة في الدول يعتمد على احصائيات دقيقة تنعكس بنتائجها على الدولة.
كم من المعاناة شهدها اللبنانيون من قبل إعلان دولة لبنان الكبير، لا سيّما في ظلّ الحرب العالميّة الأولى عندما تضخمت أزمة المجاعة بسبب الحصار والمضايقات من جهةٍ، وموجة الجراد من جهةٍ أخرى، حتّى أن أصبحت الأمّ توهم أطفالها أنّها تطهو لهم البطاطا في حين أنّها تغلي الحجار. خسر لبنان للأسف ثلث عدد سكانه وافتتح مع أوّل القرن كتاب الهجرة بأولى صفحاته التي طالت معظم دول العالم، لا سيّما أقسام من أميركا الشّمالية والجنوبية حيث نفذ ما يقارب ١٠٠ ألف نسمة وأغلبهم من منطقة المتصرفية.
فيما بعد لم تهدأ الأوضاع بشكلٍ كافٍ لتقنع الناس بالبقاء والاستقرار مع الانتداب الفرنسي. لكنّ الهجرة استقرّت في أوقات عديدة، وذلك لأنّ الشعب لطالما آمن وطالب بالحصول على وطن سيّدٍ مستقلٍ. فبقاء هذا الشعب في أرضه خير دليل على إصراره لهذا المطلب. وحتّى بلوغ الحرب العالمية الثانية واعتبار لبنان ثكنة عسكرية للحلفاء وللمحور بحسب مسيرة الحرب، عادت حركة الهجرة من جديد مع هروب حوالي ٦٥ ألف شخص من الأحداث - ونشدّد على ذاكرة مملوءة من الألم في الحرب الّتي سبقتها- فكانت الهجرة السبيل الوحيد إلى البلدان التي لم تدخل الحرب أو لم تلتحق في صفوف المقاتلين لا سيّما الجيش الفرنسي.
مع هزيمة المحور وتموضع الولايات المتّحدة الأميركية والاتّحاد السوفياتي على مقاعد المنافسة على الكرة الأرضيّة، انفجر بركان التطوّر والثّورة العمرانيّة والنفطيّة والتكنولوجية في العالم، وخاصّةً في العالم العربي. فأصبحت تستقطب اليد العاملة من حيث ما تأتي كما تجذب العقول الخارقة لتنمية مشاريعها الفردية. وفي المقابل تكسبهم الدول إنتاجاً، وازدادت فرص العمل التي طمع اللبنانيّون بالعديد منها، ومنذ أن هاجروا نسيوا طريق العودة. كما أنّ بعض التغيّرات السياسيّة والاقتصاديّة في الدول المجاورة انعكست في هذه الحقبة على الدول المحيطة كمصر وفلسطين. كذلك توجّهت مجموعات لأوّل مرّة نحو إستراليا.
إلى حين اندلاع الحرب اللبنانيّة التي تعتبر الأقسى على الشعب اللبناني، وصولًا إلى عهد الوصاية الذي تلاها والذي وضع البلد رهينة، وإنقسام الجنوب عن الدولة، تعتبر هذه الحقبة مجموعة ضربت الاقتصاد. فانهارت العملة وارتفعت نسبة البطالة وتدهورت الأوضاع الأمنية ونشأت صراعات داخلية جعلت الأخ يقتل أخاه. كما توافدت أيادٍ طويلة لتقتل الشاه وتحلّ مكانه في أرضه، ولم يبق فعلاً في الوطن إلّا من هدف إلى المحافظة عليه والمقاومة في وجه الأعداء، عوضًا عن تسليم هذه الأرض إلى الغريب. في هذه الأحداث الدامية كمعركة الدامور التي شرّدت أهلها صعوداً نحو بيروت ونزولاً نحو الجنوب، وأهالي صيدا المسيحيّين الذين أرغموا على النزوح إلى قرى الجنوب وما زالوا حتّى اليوم يلقّبون بالمهجّرين، ما ذنب أهل البيت إن كان سقف البيت لامس أرضه؟ توازي تلك المعارك حركة بحرية وأخرى جوّية نقلت ٧٠٠ ألف نسمة وزّعتهم في العالم ريثما تهدأ الأوضاع. وكم تعدّدت المعارك والأحداث التي نتجنّب العودة إليها إلّا لتذكار شهدائها، ومع طيّ صفحتها بسلسلة من المصالحات الوطنيّة بعد انتهائها. لكن نسبة ضئيلة وتقريباً ربع المهاجرين اختاروا طريق العودة متأمّلين بغدٍ أفضل.
وما زلنا بانتظار غدٍ أفضل منذ ذلك الحين حتّى اليوم، لا سيّما الأجيال الجديدة التي لم تتحمّل الصبر فلجأت كما من سبقها إلى المرفأ والمطار بحثًا عن فرص عمل متاحة وإمكانيات عيشٍ نظيفة مستقرّة وآمنة. ومنهم ما زالوا يصبرون إلى جانب أهلهم ويتحمّلون مراحل الحياة اليوميّة، ويدخّرون طاقاتهم لاستثمارها في وطنهم لعلّهم يشاهدون الغياب يعودون إذا نجح مشروعهم بإعادة تأهيل السلطة وما يتبعها من مقوّمات بناء الدولة.