التّطرّف: وباءٌ متفشيٌّ
تتربّع قضيّة التّطرّف على رأس المشاكل التي تعانيها المجتمعات المعاصرة. فقد اتّخذت هذه الأخيرة حيّزًا مهمًّا من حياتنا اليوميّة، شئنا ذلك أم أبيناه، وذلك لأنّ هذه الإيديولوجيا غدت السّبب الرّئيسي للإجرام والتّنكيل. نعيش في عصرٍ كثُر فيه السّفّاحون، وأصبحت الجماعات المتطرّفة حديث السّاعة تتناقله ألسنة النّاس بأمثلةٍ جديدةٍ كلّ يوم. فما هو التّطرّف؟
التّطرّف: سببٌ أم نتيجة؟
يرتبط التّطرّف إرتباطًا وثيقًا بالظروف الاقتصاديّة والاجتماعيّة والتّاريخيّة، إلى جانب بعض الظروف الأخرى التي تُفرض على المجتمع فرضًا وإكراهًا. ويُعزى سبب ذلك إلى العاملَيْن النّفسي والاقتصاديّ اللذين يطغيان على تصرّفات الإنسان وخاصّةً مع انفتاح الحضارات على بعضها البعض. يُعدّ لبنان خيرَ مثالٍ على ذلك باعتباره متعدّد الطوائف والكيانات الحزبيّة. إذ عانى المواطن الأمرّين نتيجة النّزاعات الطائفيّة والسّياسيّة التي أودت بالوطن إلى شفير الهاوية، انطلاقًا من ضيق فرص العمل والفقر والإجرام، وصولًا إلى تعطيل عمل الدولة وقضائها. أثمر عن كلّ ذلك تفشي التّطرّف بوتيرةٍ سريعةٍ كالأمراض، لا سيّما في المجتمعات الفقيرة التي تجهد لتؤمّن قوتها، نتيجة انعدام الاستقرار والحرمان من الحريّات. لا ننسى أيضًا أنّ الجهل والتّخلف من الأسباب الرئيسيّة في انتشار التّطرّف. إذ تلعب الثّقافة والتّعليم دورًا أساسيًّا في تنشأة المجتمع وتحضيره، كما يُعزّز العلم قدرة الإنسان على التّحليل والتّمييز بين الخطأ والصّواب.
"من عزيز إلى عزيزة، انتشر المرض من دون فيزا"
يتشعّب التّطرّف أكثر في المجتمعات التي غابت عنها شمس العدالة وفيء القضاء. أمّا القدرةُ على احتوائه فشحيحةٌ جدًّا، والدليل القاطع على ذلك هو تمكُّن التّنظيمَيْن الإرهابيَّيْن داعش والنّصرة سابقًا من السّيطرة على عقول بعض الشّبّان. فاستغلا الوضعَيْن الاقتصاديّ والاجتماعيّ المذريَيْن في المنطقة، ليحقوابهم الشباب في صفوف الإرهاب عبر المساعدات التي أُرسلت إلى ذويهم. ولا يتجلّى التّطرّف في بلدان العالم الثّالث فحسب، بل يلوذ إلى المجتمعات الغربيّة المتحضّرة، على سبيل كارثة المسجدَيْن في نيوزيلندا مؤخّرًا، والتّفجيرات في العاصمة الفرنسيّة باريس من قبل...
مظاهر التّطرّف: عدّة وجوه لعملة واحدة
لا يعرف التّطرّف سياقًا واحدًا، بل يتشعّب إلى العديد من الأشكال. فالتّعصّب العرقيّ هو من أبرز أوجه التّطرّف، حيث يخال للشّخص بأنّ عرقه أو مذهبه أو فكره هو السّليم، ممّا يخلق جماعات إرهابيّة متعصّبة تسعى إلى الإطاحة بالآخرين. نذكر أيضًا التّشدّد والتّشبّث بالرأي وما يرافقهما من تعنّتٍ لجهة الاستماع إلى رأي الآخر والحوار معه، ما قد يخلق سوء تفاهم وقلّة إستدراك. يكمن التّطرّف أيضًا في الانطواء وعزل النّفس عن الآخرين، وينجم عن ذلك عدائيّة كلاميّة أو تصرّفات عنيفة تجاه الآخر. وبالطبع لا ننسى تضليل الجماعة وسير أفرادها خلف السّاسة أو رجال الدين كالخراف ضمن القطيع.
التّطرّف: أحجيّة المجتمع اللّبنانيّ
ينشطر المجتمع اللّبنانيّ إلى طوائف وأحزاب وإيديولوجيّات. وعلى الرغم من أنّ الاختلاف لا ينبغي أن يشكّل سببًا للخلاف، إلّا أنّه للأسف في لبنان يُشكّل السّبب الأساسيّ في تفرّق "أشلاء" الوطن. خلافاتٌ تنهش بأسنانها حُلم تأسيس الوطن السيّد والمستقلّ، لكنّها تعزّز أيضًا حضور التّطرّف في حروبٍ وجوديّةٍ، هي في الواقع ليست حقيقة. وكيف عساك أيّها السّلام أن تعمّ في أرجاء البلد، والأخ ناقمٌ على أخاه؟ المشكلة، كلّ المشكلة هي أنّنا نقتل ونسرق ونهشّم ونشتم بإسم السّلام. تكمن المشكلة أيضًا في تبريرنا لتطرّفنا ونزاعاتنا تحت شعاراتٍ دينيّةٍ وسياسيّةٍ مبتذلةٍ.
تطرّف، وطن، حلم
كلٌّ منّا يميل إلى التّطرّف. حتّى العلمانيّون ليسوا بمنأىً عنه لجهة التّشبّث بمعتقداتهم، وإن كانت تحاكي عدم تطرّف. نحلم جميعًا بأن يكون وطننا لبنان أحد البلدان الأكثر تمسّكًا بالحرّيّات والحقوق، بالمنئى عن التّطرّف والإرهاب. نحلم جميعًا بأن نكون القدوة والمثال الأعلى للعيش المشترك، وألّا نعيش كالسّلع المتضاربة في الأسواق لحصد أكثريّة المشترين. كلٌّ منّا حرّ الرّأي وحرّ العقيدة. حبّذا أن نتقبّل اختلاف الآخرين، وأن نتعاضد لتحقيق مصلحة الوطن أوّلًا، ومن ثمّ مصالحنا المشتركة حرصًا على أمن الوطن وسيادته. أمّا الهدف الأسمى الذي ينبغي التّطلّع إليه هو إفساح المجال أمام أبناءنا للعيش بكرامةٍ والابتعاد عن التّطرّف الإرهابيّ الذي ينام تحت سقوفنا وفي أسرّتنا.