صراعُ التّنشئة
توجيه APR 06, 2019

لبنان موطنُ اللّغات ووالدُ كلّ مفكرٍ مبدعٍ لمع اسمُه في بلادِ الاغترابِ. لبنان وطنُ جبران والرّحابنة والصّافي. لبنان حلمُ البشير وقضيّةُ غسّان وجبران التّويني. لبنان منبر مي شدياق وابداع مايكل دبغي وقلم ندى مغيزل نصر الرائدة في كتابها "أشياء بسيطة".
لبنان وطني. أنا طفلةُ السّبع سنوات التي اعتادت الاستيقاظ في السّادسة صباحًا لتمضي سبعَ ساعاتٍ في المدرسةِ وتعودَ إلى البيتِ بباصٍ يلفّ بها العالم قبل أن يعيدها أدراجها.
لبنان وطني. أنا من تحمل حقيبتها المدرسيّة الثّقيلة على كتفيها يوميًّا.
لبنان وطني! نعم، ولمَ العجب؟ فهو وطني أنا الطفلة التي تنشغل بمتطلبات الحياة اليومية، لأنّ لبناني لا يمنحني فرصَ الطفولة المؤاتية.
لبنان وطني ووطن كلّ طفلٍ لا يمضي وقتًا كافيًا مع والدَيه اللذين ينهمكان أغلب أوقاتهما في العمل ساعِيَين وراءَ تأمين حياة كريمة لنا.
ولا زلتم تسألون لبنان وطنَ مَن؟ ألا تعلمون أنّ لبنان هو وطني ووطن كلّ أسرةٍ تُبقي أطفالَها مع مربيّاتٍ أجنبيّات؟ أنسيتُم أنّ لبنان هو وطن كلّ مؤمنٍ بالمثل القائلِ "من ضربك أحبّك"؟
إن شاغب طفلُك اضربه، "ما بيتعلّم غير بالضّرب".
نعم، فالضّرب يوفّر عليك العناء، فيرتعبُ الطّفل ويخضع. وهذا ما يفتخرُ به أعلامُ الجهلِ. ولكن ماذا يتعلّم الولدُ بهذا الأسلوبِ العظيم؟
بحسب علم النّفس، خلال الضّرب أو العنف الكلاميّ حتّى (فاشل، غبيّ، الخ) نغرسُ في أذهانِ الأطفالِ، أي الأجيالِ القادمةِ، مبدأَ العنفِ؛ فإمّا يتمسّك المُعنَّف بشخصيّةِ معنِّفةٍ تستمتعُ بأذيّةِ الآخرين، إمّا نولِّدُ فيه شخصيّةَ الضّعيفِ الخاضعِ الباحثِ عن العنفِ. وفي كلتي الحالتين، سيُعاني اضطراباتٍ نفسيّةٍ.
ومن ناحيةِ علم أصول التّعليم(Pédagogie) ، إن ضربنا الطفل أو وبّخناه، فلن يساهم هذا الأمر أبدًا في تعليمِه للتّمييزِ بين الصواب والخطأ. فبهدف تربية الطفلِ، يجب إرشاده أوّلًا إلى ما هو الصّواب وشرح أسبابه. وإن كرّر الفعلةّ، نلجأُ حينها إلى مبدأ العقاب الفعّال البعيد عن العنفِ. فيكون العقابُ منطقيًّا وتثقيفيًّا مرتبطًا بموضوع الذنب المرتكب. كما تُعدّ استشارة المتخصّصين أمرًاٍ طبيعيًّاٍ، لا بل ضروريّ حتّى.
تشكّلُ المدرسةُ عنصرًا أساسيًّا من عناصرِ التّربيةِ والتّنشئةِ والتّعليم. لكنّها تُعاني ثغراتٍ عدّة تؤثّرُ على نوعيّة أدائها لهذا الدور. فعلى سبيلِ المثال، ينبغي على المدارس تخصيص خزانة خاصّة لكلّ تلميذٍ ليحتفظَ بكتبِه فيها من دون الحاجةِ إلى نقلِها معه يوميًّا الى المنزل. اذ، وفق الدّكتور محمد شبيب - استشاري طبّ الأطفال وحديثي الولادة، لا يجب أن يزيد وزن الحقيبة عن ١٥٪ من وزن الطالب، وإن كان لم يبلغ الثّانية عشر من العمر بعد، فيجب أن تكون أقلّ من ذلك حتّى. إذ أنّ وزن الحقيبة الثّقيل من شأنه أن يؤدّي إلى تشوّهٍ في العامود الفقريّ وقد يسبّب مشاكلَ في عضلاتِ الكتفِ والظّهرِ.
بالإضافة إلى ثقلِ الحقيبةِ المدرسيّةِ، فلا ينبغي أن تتراكم الواجبات والفروض لإنجازها في المنزل، لينعم الطفلُ ببعض الوقتِ الحرِّ للّعبِ والرّاحةِ.
كما ينبغي على المعنيّين العمل على تطويرِ وتجديدِ المناهجِ الدراسيّةِ المُهترئةِ مع تطوّر الأزمان. ومن أهمّ الأمور التي يتوجّب تعديلها، هو اختصارُ المراحلِ الدراسية وتخصيص السّنوات الأولى لتنشئةِ الأطفال وتعليمهم القيم الأخلاقيّة والوطنيّة، كدول العالم المتقدّمة.
تؤدي المدرسةِ دورًا مهمًّا في التّنشئةِ وتوجيه المقبلين على التّخرّج نحو الاختصاصاتِ المناسبةِ لشخصهم ولسوقِ العمل. ويُعتبر الأهل أيضًا حجر الأساس في تطوير شخصيّة الفرد وتحضيرها. ففي ظلّ ضيق الحالة الاقتصاديّة في لبنان، يضطرّ الزوجان إلى العمل بدوامٍ طويلٍ، فيغيبان عن الأطفال من دون إعطائهم حقّهم بالتّقرّب منهما واللّعب معهما. وفي فلسفةِ مجتمعِنا، لا مانعَ في تركِ الطفلِ مع مُساعِدَةٍ أو في دُورِ حضانة. إنّما أيّ دَوْرٍ للأهلِ يبقى في العلاقةِ مع الطفلِ غير الدور الاقتصاديّ؟ وهكذا، ألا نرسّخ في ذهن الطفل اللّاواعي أنّه لا تكمن مشكلة في ترك والديه في دار للمسنّين عندما يكبر وينشغل في خوض مغامرات الحياةِ والجري وراءَ الرّزق؟ 
كثيرةٌ هي شوائبُ التّربيةِ والتّعليمِ في مجتمعاتٍ نشأَ كبارُها في خضمّ الحرب، فاعتادوا أن يكونوا أكثر قسوة وأجبروا على السّعي إلى تأمينِ الرّاحة الاقتصاديّة التي حُرموا منها. جيلٌ منعتْهُ الظروف من تحقيقِ أحلامِه، فحلمَ برؤيةِ طفلِه يحقّقها من دون التّفكير بما فعلًا يريد ذلك الأخير. جيلٌ وقع ضحيّةَ طمعِ سابقِيه، فحُرِمَ من التَّعَلُّمِ، ويطمحُ أن يعوّض ذلك الحرمان في تعليمِ أولادِه، فيولدُ جيلٌ من المحامين والأطبّاء والمهندسين، محتقرين التّعليم المهنيّ الذي يُعدّ اليوم فعليًّا الطريق الأكثر أهميّة.
لبنان وطني، يا وطن كلّ شابةٍ ٍ وشابٍّ يتحملان عبءمناهجك الدراسيّة، يا وطن كلّ إمرؤ موصومٍ بلقبِ "الفاشلِ" إن رسبَ ولو مرّة واحدة. 
لبنان وطني، يا وطن كل مراهق يتسرب مدرسيًّا في سنٍّ مبكرٍ. 
لبنان وطني، يا أرض كلّ فردٍ يتعلّم فيها ويعيش بمدخولٍ أقلّ بكثير ممّن يستجدي في طرقاته. 
لبنان وطني، أرجوك وحكّامك الرأفة بكل مواطنيك، وتطوير مناهجك الدراسيّة لبناء مجتمعٍ أفضل وغدٍ أفضل، فتبقى لبنان الفكر والثّقافة الذي عهدناه، البعيد عن تعليب الأذهان والعقول.

توجيه APR 06, 2019
إستطلاع
مجلة آفاق الشباب
عدد استثنائي
إقرأ المزيد