فقرة "شو في ما في" من العدد 90 من مجلّة آفاق الشّباب
إستفاقَ اللبنانيون منذ فترة على أزمة اقتصادية ألمّت بالبلد وحلّت كالصاعقة على المواطن على أثر خبر احتجاز أمواله المودعة في المصارف واختفائها فجأة من دون سابق إنذار. فكانت الواقعة قاسية على من تبخّر تعبه وجنى عمره بين ليلة وضحاها؛ كانت قاسية على ذاك المشرف على تقاعده متوقعاً أن تكفيه إيداعاته المدخّرة في مصرف ما، وقاسية على ذلك الشاب الطموح الذي لطالما حلم باستثمارات تنعش اقتصاد وطنه.
إلى أن حلّت الكارثة الأكبر، كارثة الدولار. فانهارت الليرة اللبنانية على مراحل وأصبح الحد الأدنى للأجور لا يساوي مئة دولار... أما التدهور الجنوني لسعر صرف الليرة اللبنانية أمام الدولار فسبّبته أطراف عديدة، ودراسات اقتصادية ومالية مطوّلة حذرت منه. لكن لم تكن آذان مسؤولينا الكرام تصغي.
في هذا الإطار، طرحنا تساؤلات كثيرة تدور في فكر كل المواطن، وكان للخبير الاقتصادي ومدير مكتب رئيس المنتدى الاقتصادي العالمي في جنيف، مارون كيروز، مداخلة شرح لنا فيها هذه الأزمة التي لم يمر مثيل لها على لبنان منذ نهاية الحرب اللبنانية.
الدولة اللبنانية وأزمة العملة الصعبة:
يشبّه مارون كيروز الحالة الاقتصادية المتردية اليوم في لبنان بالمرض الاقتصادي؛ ولهذا المرض مسبّبات معقدة وعوارض كثيرة، وأزمة الدولار هي إحدى تلك العوارض وليست كما يصفها البعض بالفيروس أو الجرثومة التي تسبب المرض. أما إذا أردنا معرفة المسبب الأساسي أو الفيروس الاقتصادي، فيقع اللّوم على الحكومات المتعاقبة وسلوكها منذ نهاية الحرب، لأنّها أشرفت على تضخم جسيم وغير مسؤول في الإنفاق الذي لا يتناسب والقدرة المالية العامة، ما خلق إدماناً لدى الدولة على الدَين الذي وصل إلى نسبة 173% من الناتج المحلي، وأصبحت خدمة هذا الدَين العام تنهش ما يقارب 35% من الموازنة السنوية. والأسوأ من هذا كله أن غالبية النفقات موجهة إلى استعمالات غير منتجة، كرواتب وأجور ودعم للكهرباء ومشاريع ذات جدوى مشكوك في أمرها…
ظهرت بداية آثار الأزمة الاقتصادية في لبنان منذ عام 2019 وقبل اندلاع الاحتجاجات والتحركات المطلبية، وكانت حينها الفرصة متاحة للدولة اللبنانية لاتخاذ اجراءات تخفف من وطأة الأزمة وتسرّع عملية التعافي منها. ومن أبرز الحلول التي كان من المفترض اعتمادها هو إقرار قانون ضبط التدفقات المالية (كابيتال كونترول) الذي يهدف إلى الحدّ من التدفقات المالية بهدف تنظيمها. كما كان من المفترض اتخاذ إجراءات أولوية سريعة تظهر جديّتها في مداواة المالية العامة، كتنفيذ القرارات القضائية المتعلقة بالتعديات على الأملاك البحرية، وإلغاء عقود الموظفين الذين تم التعاقد معهم خلافاً للقانون، والمباشرة في إصلاح قطاع الكهرباء، وإعادة النظر في سلسلة الرتب والرواتب لأصحاب الأجور المرتفعة...
وعلى الرغم من أنّ الحكومة اليوم لا تحوز على ثقة الإدارة الأميركية، إلّا أن معظم الأوروبيين وبعض العرب مستعدون لمنحها فرصة، شرط أن تنفذ الإصلاحات المطلوبة. كما تخضع هذه الحكومة لمعايير اقتصادية علمية تتمتع بمناعة معينة تجاه التسييّس، نظرًا إلى المفاوضات مع صندوق النقد، على عكس ما يشاع في بعض الأوساط؛ وهذا أمر يطمئن بعض الشيء.
العجز في الموازنة:
يشرح لنا كيروز بشكل مبسط، آليات عمل الاقتصاد اللبناني قبل الأزمة. فكان الاقتصاد يعتمد على تدفقات مستمرة من الخارج إلى القطاع المصرفي الذي كان يرتكز على الفوائد المرتفعة لجذب تلك الودائع الجديدة. وبالتالي، يحدّد صافي هذه التدفقات المالية الوافدة من وإلى البلد، سعر صرف الليرة بشكل أساسي. وطالما تحافظ التدفقات الوافدة إلى لبنان على ذات مستوى تلك الخارجة منه (أو أعلى منها)، يصبح من السهل الحفاظ على سعر الصرف. إذاً، عندما تبقى المصارف قادرة على جذب مبالغ متزايدة من الخارج، لن تولد أي إشكالية. إنما حين تباطأت تلك التدفقات بين عامي 2015 و2016، وانعدمت وانعكست عامي 2018 و2019، اهتز سعر الصرف.
وهنا لابد من طرح السؤال المفتاح: ما الذي مكّن المصارف من منح فوائد مرتفعة بهذا الشكل؟ الجواب بسيط: فإدمان الدولة على الدين أتاح للمصارف الاستفادة من مصدر للعائدات السهلة، وسمح لها بالتالي بجذب الودائع بهذا الشكل. صحيح أن المصارف تتحمل جزءاً من المسؤولية لأنها استثمرت معظم أموال المودعين لتمويل دَين الدولة، لكن منبع الأمر يبقى في السياسات الحكومية المتعاقبة التي لجأت إلى سياسات إنفاق عشوائي واستدانة غير مستدامة.
ضعف القطاعات في لبنان وآثاره على سعر صرف الدولار:
بداية، يشكل القطاع المصرفي مصدر قوة للعملة الوطنية، كما في بريطانيا والولايات المتحدة وسويسرا على سبيل المثال لا الحصر. لكنّ المشكلة في القطاع المصرفي اللبناني تكمن في طريقة عمله وتوجيهه لمعظم استثماراته (70% من أصوله تقريباً) لتمويل الدولة خلافاً لمبادئ الاستثمار الرشيد.
وتتمركز المشكلة الكبرى في باقي القطاعات، خاصة القطاع الصناعي الذي لا يلومه كيروز في ظل غياب العناصر التنافسية في البلد. فلا مثال لدولة ناجحة صناعياً في غياب مصدر ثابت وذي سعر مقبول للطاقة، والاتصالات في لبنان من أغلى الخدمات في العالم وأسوئها، إضافة إلى حال البنى التحتية السيئة لا سيّما النقل البري، والفوائد على القروض مرتفعة بسبب إدمان الدولة على الدين، والبرامج المهنية قليلة فيما نرى تكاثر لجامعات لا تمتلك المقومات المطلوبة. هذا عدا عن تأثير غياب الاستقرار السياسي. فأية صناعة يمكن أن تنافس في هذه الظروف؟
وفيما يتعلق بالاستيراد، يُعتبر مستواه شبه طبيعي بالنسبة إلى بلد يفتقر إلى الموارد الطبيعية مثل لبنان، في حين أن القسم الأكبر من المواد المستوردة (ما لا يقل عن 80 أو 85%)، يستحيل أو يصعب إنتاجها محلياً، وعلى سبيل المثال 20% تقريباً من قيمة الاستيراد ينفق على مشتقات نفطية، و10% على الآليات والسيارات، و10% على الأدوات المنزلية... هذه أمثال عن منتوجات يصعب استبدالها بصناعات محلية ذات سعر تنافسي. إذاً لا تكمن المشكلة في الاستيراد، لكن التركيز يجب أن يكون على التصدير وتحفيزه.
واقع النظام الاقتصادي الحر في هذه الأزمة:
يُعدّ النظام الاقتصادي في لبنان نظاماً اقتصادياً حرّاً، أي نظام قائم بشكل شبه مطلق على الحرية الفردية وحق المواطن الكامل في القيام بأي عمل أو نشاط اقتصادي شرعي وقانوني. وتؤدي هذه الحرية حتماً إلى عملية العرض والطلب التي تتحكم تلقائياً بالأسعار والمنافسة الحرة التي تُعتبر ميزة وركناً أساسياً لهذا النظام. لكن ما سبق وذكر لا ينفي دور الدولة أو القطاع العام في عالم الاقتصاد ولا يلغيه، فلا يستقر السوق الاقتصادي الحر إن لم تكن للدولة رقابة عليه ولم تفرض القوانين اللازمة التي تحد من الاحتكار وجشع التجار.
هل كان نظامنا الاقتصادي نظاماً حرّاً حقًا؟ على سبيل المثال، يمثّل الموظفون الحكوميون قرابة الـ 50% من القوى العاملة الرسمية، ولا تزال الدولة تدير قطاع الطاقة وتشرف على قطاع الاتصالات. في أي اقتصاد حر تسود الوكالات الحصرية ونرى المصرف المركزي يستحوذ على 40% تقريباً من الدَين الحكومي والأسواق المالية؟ لذا يجب إبعاد الإيديولوجيا عن المقاربة الاقتصادية والحكم على السياسات الاقتصادية بناءً على النتائج التي تحققها لصالح المجتمع.
مسؤولية المصرف المركزي:
يشير كيروز إلى أن في عام 1992 وفي أزمة اقتصادية مشابهة للتي نواجهها اليوم، حاول المصرف المركزي ضخ الدولار، ما أدى إلى استنزاف الاحتياطي الخاص به، ولم ينجح في كبح انهيار سعر صرف الليرة. فيفيد ضخ الدولار إن نجم اهتزاز العملة الوطنية عن صدمة آنية وعابرة. أما إذا كانت الأسباب بنيوية وعميقة كالوضع الحالي، فلن تكفي عملية الضخ لاستعادة ثقة الناس. لذلك، يتجسد الحل الجذري في إصلاحات سريعة للمالية العامة تعيدها إلى مسار الاستدامة؛ وهنا يمكن أن يستعيد الاقتصاد قدرته على جذب العملة الصعبة.
وفيما يتعلق بسياسة دعم المواد الغذائية الرئيسة، تعتبر سياسة سيئة لأنها ليست موجّهة إلى إفادة الفئات الأكثر هشاشة. فالأفضل هنا اعتماد التحويلات المالية المباشرة للعائلات المحتاجة، بحسب الحاجة وفقاً لمعايير علمية. يتساءل الجميع عن وضع احتياطي الدولار في مصرف لبنان الذي اضطر إلى استخدام قسم من هذا الاحتياطي لاستيراد بعض المواد الأساسية كالمازوت والقمح، فيما لجأت الحكومة إليه أيضاً لتغطية استحقاقات اليوروبوند في العام الفائت.
في الوقت ذاته، لم يعتمد المصرف المركزي أفضل معايير الشفافية في منهجية احتسابه للاحتياطي الخاص به بحسب ما أدى إلى اهتزاز الثقة بدوره، بحسب ما يوضحه كيروز. لكن بعد شن الهجوم الممنهج على حاكم مصرف لبنان، يشير كيروز إلى أن المسؤولية لا تقع على عاتق رياض سلامة وحده فقط، بل للأزمة الحالية أسباب موضوعية مزمنة تفاقمت خطورتها نتيجة تقاذف المسؤوليات بين مصرف لبنان من جهة، والحكومتين الحالية والسابقة من جهة أخرى، إذ لم يُقرّ قانون "كابيتال كونترول" الذي يُعدّ أول إجراء يجب اللجوء إليه في أزمات كهذه، لا بل تُرك الأمر للمصارف لتطبيق تلك الضوابط بشكل استنسابي ومن دون أي سند قانوني، وذلك في مخالفة واضحة لحقوق المودعين.
علاقة حزب الله في تأزم الأوضاع الاقتصادية:
أطلّ أمين عام حزب الله حسن نصر الله مؤخراً، ملقياً خطابه المطوّل ودعا فيه بطريقة غير مباشرة إلى مقاطعة أميركا والتعاون مع إيران، فيما أصدرت الولايات المتحدة الأميركية سلسلة عقوبات استهدفت المنظمات الإرهابية ضمّت حزب الله وحلفائه إلى قائمة تلك العقوبات.
يوضح كيروز أن تصاعد العقوبات الأميركية على "الحزب" قد سرّع وتيرة الانهيار الاقتصادي، لكنّ المؤشرات التي لفتنا إليها سابقاً تُعتبر أساس هذا الانهيار نظرًا إلى إدمان الدولة على الدَين والغياب التام للنمو الاقتصادي في السنوات الأخيرة.
أما عن اقتراح أمين عام حزب الله فليس بحلّ، بل شعارات معظمها غير متطابقة مع منطق العلوم الاقتصادية. ويسأل كيروز "من يمنع الحكومة اليوم التي أكّد نصر الله في الكلمة نفسها أنها حكومته، من اعتماد خيارات بديلة إذا كانت متاحة؟ ولماذا أجاز لها حزب الله التفاوض مع صندوق النقد الدولي وأمّن لها الغطاء السياسي، رغم أن ذلك يشكل مخالفة لأدبياته ومبادئه، إذا كان لديه بديل؟"
بالطبع، يمكن للبنان الاستفادة كثيراً من تعاونه مع الصين مثلاً التي هي ثاني اقتصادات العالم، في مجالات عديدة كالطاقة الشمسية والقطارات السريعة وتكنولوجيا المعلومات، لكن هذا التعاون يتطلب توافر العملة الصعبة. والحقيقة أن بالنسبة إلى لبنان، يستحيل عليه إيجاد مصدر أفضل من صندوق النقد للاستدانة في الوقت الراهن، نظراً إلى نسبة الفائدة على الدَين تتراوح بين 1 و2% مقابل ما لا يقل عن 6 أو 7% عند اللجوء إلى مصدر آخر. وبحسب كيروز، يعجز حزب الله اليوم عن تقديم أي طرح جدي في الأمور الحياتية، ومن المؤسف أن نراه يخضِع مبادراته كافة لمعيار خدمة المحور الإقليمي الذي ينتمي إليه، حتى ولو على حساب الشعب اللبناني ومعاناته.
هل سيُثبت سعر الصرف وما مصير الحد الأدنى للأجور الذي لم يعد يساوي مئة دولار؟
يطرح كيروز شرطين لإعادة الثقة بالاقتصاد الوطني والوصول إلى استقرار في سعر صرف الليرة: الأول هو التوصل إلى اتفاق مع صندوق النقد الدولي لإعادة تدفق العملة الصعبة إلى البلد بشكل سريع، والثاني هو تنفيذ الحكومة بشكل طارئ لسلة من الاصلاحات الجذرية المراعية لمعيار العدالة الاجتماعية. وحتى اللحظة، لم نرَ بوادر لتحقيق الشرط الأول، وتظهر الحكومة سائرة في عكس ما يؤدي إلى تحقيق الشرط الثاني. واستناداً إلى تلك المعطيات، يستحيل التكهن بالوجهة النهائية لسعر الصرف.
وعن الحد الأدنى للأجور، تجاهلت الحكومات المتعاقبة بشكل شبه تام معيار العدالة الاجتماعية ضمن السياسات الاقتصادية التي نصّت عليها مقدمة الدستور في المادة ج. ولم تذكر الخطة الاقتصادية للحكومة شبكات الأمن الاجتماعي إلا بشكل هامشي ومرتبط تماماً بتوفر التمويل الخارجي لها. لذا ما يجب أن يحصل اليوم أكثر من أي وقت مضى في ظل أزمة اقتصادية غير مسبوقة، هو تصحيح شامل لمسار الحماية الاجتماعية لتصبح الأولوية بالنسبة إلى الدولة. كما يجب إعادة النظر في الحد الأدنى للأجور ضمن هذا المسار، لكن مع سلة من الإجراءات الأخرى كتفعيل عمل المؤسسة الوطنية للاستخدام وإقرار نظام تعويض للبطالة ونظام تقاعد عام والطبابة الشاملة وخطة تربوية تسمح بتطوير أداء المدرسة الرسمية.
إلى أين يتوجه لبنان اليوم، وعلى أي حال سنجده في السنوات المقبلة؟ أولادنا أضحوا بلا أمان، وطلابنا فقدوا أملهم بالغد، وأهلنا احترقت قلوبهم، ولبناننا احترق واختنق ودمّر وسُلب وأفلس. لبناننا اليوم يستنزف يا سادة، وأنتم همكم الوحيد لقاءاتكم المزيفة وخطاباتكم الفارغة. لكن سيأتي يوم الانتفاضة العظمى حتماً وستنتصر ثورة الجياع، مهما حاولتم إسكاتها وقمعها! فتواضعوا وانزلوا عن عروشكم قبل أن تهتز وتنهار عليكم جميعاً!