الدّيمان: جنّة الخلد في لبنان
كزدورة APR 01, 2019

جنّةٌ سابحةٌ على شفق النّفس، نحت اللّه معالمها بإزميلٍ من الكمال. اتّخذت هذه القرية من كتف الوادي المقدّس وسادةً لها، ومن جبل مار سمعان شرفةً إلى عالم الخيال. تُمسك زهرة الجبل حصرون بشمالها، وتداعب أخدود بريسات بيمينها. إنّها الدّيمان، منزل الصّرح البطريركي الصّيفي والحرس السّاهر على جبّة بشرّي من أعلى منارة الوادي المقدّس.
تُصنّف الدّيمان بلدةً صغيرةً في قضاء بشرّي في شمال لبنان، قد لا يعرفها الكثيرون. فهي لوحةٌ فنّيّةٌ تستأثر بالرّوح وتتغلغل في أعماق الوجدان، لرُقيّها وجمالها وإرثها التّاريخيّ والحضاريّ. تتمتّع الدّيمان بمنظرٍ بانوراميٍّ ساحرٍ يمتدّ من إهدن حتّى حدث الجبّة بفضل موقعها الجغرافيّ على ضفّة وادي القدّيسين، وتتلألأ صيفًا كحلم الجنّة. بعثة ريحٍ ناعمةٍ، شّمسٌ ساطعةٌ تدغدغ المروج الخضراء، وعصافيرٌ تزقزق. أمّا شتائها؟ فإكليل من الجليد ورداء ثلوجٍ وعطر دخان حطب التّدفئة.
ما يميّزها عن غيرها هو مصاعب الحياة وتطوّرها لم يفكّكا شمل ذويها، ولم ينسَ أبناءها نفحتي الألفة والأخوّة الذين يتكاتفون حتّى اليوم متى اشتدّت الصّعاب. لا حقد ولا ضغينة بينهم، بل روح اللّبنانيّ وقِيمه البحتّة التي تتأصّل فيهم أبًا عن جدٍّ. فإن كنت غريبًا تمرّ بشوارعها، تآخوا معك على الفور واستدعوك لتحتسي فنجان قهوة ولتشرب كأس ماءٍ وتتناول لقمةً.
تفرش حلوتنا أراضيها على شرفة الوادي المقدّس، وتنام هانئةً على ترانيم رهبان الوادي التي تتصاعد دومًا من قعر قاديشا. تعتمد على الحياة التّقليديّة، من زراعةٍ وحراثةٍ وتربية المواشي، على الرغم من سطوع نجم العديد من أبنائها في لبنان والمهجر. بعض منازلها مترفٌ للغاية، والبعض الآخر متواضعٌ شدّ التّواضع. وعلى الرغم من اختلاف المستوى المعيشيّ لأبنائها، إلّا أنّها تنضح بالعطاء والكرم والتّواضع.
لا تتوّفر في الدّيمان مطاعم أو محالّ تجاريّة، إنّما لا تنأى عن بضع أكشاكٍ للبقالة والمنتجات البلديّة ومحطّة وقودٍ صغيرة. وعلى الرغم من انعدام وسائل التّرفيه فيها، لا تخلو سماؤها من دويّ الضّحك والمتعة. ففي كلّ بيتٍ ليلًا، ثمّة أسرار السهر وشرب النخب وشلّة الصداقة لا تتزعزع. أمسيات لعب الورق وجلسات الموقدة واللّقمة الخفيفة هي إحدى عادات بلدتي العتيقة.
أمّا إذا كنت تبحث عن نقطةٍ هادئةٍ للاستراحة بعيدًا عن ضوضاء الحياة اليوميّة وضجيج المدينة، فما أكثر من هذه في الدّيمان! من جرودها إلى سهولها فأنهارها الموسميّة، يكاد يكون مستحيلًا ألّا تجد بقعةً تنسيك همومك من النّظرة الأولى. فيأتيك ابن القرية بإجاصةٍ أو تفّاحةٍ يقطفها لك من شجرته، وإن كنت غريبًا، تتذوّق فيها الطّيبة وحسن الضّيافة قبل طعمها السّكري. وإن أردت أن تروي ظمأك، فلا تبخل على نفسك وارتشف من أحد ينابيعها لم تتذوّق بلذّتها من قبل.
شهدت الدّيمان العديد من الغزوات على المسيحيّين فيها تركت خلفها من آثار ومعالم متنوّعة، على غرار مغارة الجماجم وبقايا حطام كنيسة مار سركيس وباخوس. فتبقى السّنديانة العتيقة التي أخبرنا أجدادنا عنها، أنّها علت لترفع مذبح الكنيسة من الدّمار وجرن العماد ومسطبّة الكنيسة، فضلًا عن بعض النّحوت والمعالم المتصخّرة من جرّاء هرمها مع الوقت. وكيف لا نأتي على ذكر صخرة المطران الدّبس، حيث كان يلوذ ليكتب ويؤرّخ ويقرأ. 
تتّخذ البطريركيّة المارونيّة من الصّرح البطريركي الدّيماني مقرًّا صيفيًّا لها، حيث توافد البطاركة والمطارين منذ مئات الأعوام حتّى اليوم. تجدر الإشارة إلى أنّ الدّيمان تُعنى بشؤونها العامّة من خلال تعاضد أبناءها في نادي الاتّحاد الدّيماني الذي أُسّس منذ حوالي الخمسين عامًا، وذلك ليحلّ مكان البلديّة ويُعنى بأعمالها. فما زالت بيوت أبناءها وأراضيهم بتصرف البطريركيّة المارونيّة والشراكة معها منذ التّنكيل التّركي بالمسيحيّين في عهد الوصاية العثمانيّة.
قلّةٌ هم الذين يمضون شتاءهم في الدّيمان، نظرًا إلى قساوة الأحوال المناخيّة في هذا الفصل من السّنة، وعدم توفّر فرص العمل المستدامة والمؤسّسات التّعليميّة. معظم أبناء الدّيمان مغتربون إلى كندا وأستراليا، أمّا الباقون فيمضون شتاءهم في السّواحل. ولكن الملفت هو أنّ جميعهم، في الوطن كانوا أم في المهجر، ينتظرون الرّبيع بفارغ الصّبر ليعودوا إلى أحضان قريتهم.
صحيحٌ أنّ الدّيمان قرية لا تمتثل على الخارطة سوى بنقطة صغيرة، إلّا أنّها من أجمل وأرقى القرى اللّبنانيّة. ما زالت تحتفظ بهويّتها اللّبنانيّة العربيّة الأصيلة، فتسمو بمعالمها وقيمها ونمطها التّقليديّ إلى عالم السّرمديّة، وتطلّ إلى رحب الأبديّة. تأنّى اللّه بنحتها وأحبّها، فأنعم عليها بصفات خُلدٍ تجعل منها عالمًا من خيال.

كزدورة APR 01, 2019
إستطلاع
مجلة آفاق الشباب
عدد استثنائي
إقرأ المزيد