تطرح مشاركة الكنيسة في العمل السياسي إشكاليّة تاريخيّة بين تيّارين فكريّين متناقضين: التيّار الأوّل يعتبر أنّ الكنيسة لا يحقّ لها التدخّل في الشأن العام بشكل مطلق ومن واجبها الإهتمام بالروحانيّات وبالصلاة والطقوس والعقيدة فقط. التيّار الثاني يعتبر أنّه على الكنيسة المشاركة في الحياة العامّة ومن حقّها الطبيعي التفاعل مع المجتمعات الّتي تعيش فيها. بل أكثر من ذلك، تَعتبر الفئة الثانية أنّ ابتعاد الكنيسة عن المشاركة في الشأن السياسي بحجّة أنّها يجب أن تهتمّ فقط بالروحانيّات ليس إلاّ هروباً من الدّور والرسالة الّتي يجب عليها القيام بها.
قبل الشروع في شرح وجهة نظر الكنيسة حيال العمل السياسي، لا بد من التأكيد أنّ الربط بين الدّين والدولة هو مفهوم غير مسيحي ولا يجب الربط بين هاتين المؤسّستين.
في إحدى عظاته الّتي حازت على اهتمام واسع من الصحافة العالميّة، يقول البابا فرنسيس أنّه "لا يمكن للمسيحي أن يتجاهل السياسة. على المسيحي الصالح أن يتدخّل في السياسة ويقدّم أفضل ما لديه ليسهم بإنجاح مهمّة الحاكم".
أمّا "شرعة العمل السياسي"، الصادرة عن الكنيسة المارونيّة، تعتبر أنّ المشاركة في الحقل السياسي "واجبة على المسيحيّين بحكم معموديّتهم الّتي بها يشاركون في وظيفة المسيح المثلّثة: الكهنوتيّة والنبويةّ والملوكيّة".
ويكمل النص: "هي واجبة من أجل بثّ روح الإنجيل في النظام الزمني: في التشريع والإدارة والقضاء والإقتصاد والإجتماع والثقافة".
أمّا البابا بنديكتوس السادس عشر، وقد يرى في البعض مفكّراً سياسيّاً، كانت له مواقف متقدّمة في هذا الاطار. فهو انتقد الرأسمالية بشكل علني واعتبرها "تهديداً لعالمنا المعاصر"، بالرّغم من أنّ المواقف التقليديّة للكنيسة فضّلت اتّخاذ موقع محايد من السياسات الإقتصادية للدول.
كما كانت له مواقف في مجالات عدّة كحقوق الإنسان والتغيّر المناخي وإنصاف العمّال وإيجاد حلول لحالات الفقر المنتشرة حول العالم.
وكيف ننسى الحرب الشرسة الّتي خاضها البابا يوحنّا بولس الثاني في السر والعلن بوجه الإتّحاد الشيوعي والمساهمة الفعّالة في إسقاطه؟
من ناحيتها، الكنيسة المارونيّة مليئة بالأمثلة حول مشاركتها في الحياة السياسيّة اللبنانيّة، لا بل يمكننا القول أنّ لبنان عمليّاً هو نتاج للأفكار السياسيّة للكنيسة المارونيّة.
فمن يوحنّا مارون إلى نداء بكركي، مروراً بالبطاركة المقاومين الشهداء وسعي البطريرك حويّك لإقامة لبنان الكبير ودور الرهبنة المارونيّة في تأسيس الجبهة اللبنانيّة مع بداية الحرب اللبنانيّة.
مراحل اتّسمت بالايجابيّة والحاجة لمشاركة الكنيسة في الخيارات السياسيّة.
في الختام، ترى الكنيسة أنّ السياسة هي "فنّ شريف في خدمة الخير العام" وقد تلاقت مع المفهوم الّذي وضعه المفكّرون الأكاديميّون.
من هنا إنّ مشاركة الإيجابية، سواء من علمانيّين أو رجال دين، في العمل السياسي حاجة لمجتمعات اليوم لكي تنمو وتتقدم.
وكما قال مارتن لوثر كينغ :" أسوأ مكان في الجحيم محجوز لهؤلاء الّذين يبقون على الحياد في أوقات المعارك الأخلاقيّة العظيمة".