تلوح في أفق لبنان كارثةٌ غذائيّةٌ كبيرة، هي نتيجة تفاقم نسبة الفقر الذي ترجمها ازدياد البطالة، إفلاس عددٍ مهمٍّ من المؤسّسات والشّركات، كما وارتفاع أسعار السّلع الإستهلاكيّة بشكلٍ مهيب. فمع انحسار الوضع الإقتصادي في الوطن، وما رافقه من تدهورٍ بقيمة العملة الوطنيّة وتعثّرٍ في الإستيراد، تأجّجت عرقلة العجلة الإقتصاديّة، التي باتت شبهُ متصلّبة. أمّا بعد، وبعدما غدى المواطن خالي الأكفّ في أروقة المحالّ التي تعجّ بالبضاعة الثّمينة، كيف تحمي الدّولة مواطنيها من الجوع القاهر؟ هل يمكن أن يتحقّق الأمن الغذائي الذّاتي للبنان؟ هل يحمل القطاع الزّراعي مستقبلًا واعدًا للمواطنين، من حيث تغطية عثرات الإستيراد؟
مقوّمات قطاع الزّراعة في لبنان
يشكّل القطاع الزّراعي في لبنان ثالث أهمّ القطاعات الإنتاجيّة، وتشكّل الأراضي الزّراعيّة 63% من مجمل مساحة لبنان، أي نحو 6580 كم2، أو ما يعادل 658 ألف هكتارًا. وتشير إحصاءات وزارة الزّراعة إلى أنّ 22% منها فقط مزروعةٌ بالمحاصيل، أو ما يعادل 231 ألف هكتار.
في المقابل، تداولت تقارير ودراسات عدّة أجراها متخصّصون في الإقتصاد والزّراعة، أنّ القطاع الزّراعي في لبنان يمكنه بسهولة تغطية فجوات الإستيراد وتعثّراته، بل لا ينقصه أيّ مقوّمٍ لتأدية هذا الواجب. فهل دقيقةٌ هذه الدّراسات؟
من جهةٍ أخرى، تجدر الإشارة إلى أنّ التّنوّع المناخي وتنوّع التّربة ووفرة المياه في لبنان، هي بوادر تفاؤلٍ للقطاع الزّراعي، الذي لا يشكّل سوى 4% من الدّخل الوطني بحسب إحصاءات وزارة الإقتصاد عام 2019. فمع تضافر الخبرات الزّراعيّة المتاحة في البلد، واستثمار علمي ومدروس للأراضي الزّراعيّة الشّاسعة التي لا يتمّ استهلاكها، وبسياساتٍ زراعيّة واقتصاديّة بسيطة، يستطيع لبنان حماية أمنه الغذائيّ الخاصّ.
يمكن تحويل القطاع الزّراعي اللّبناني إلى قطاع إنتاج ضروريّات، وذلك عبر خطّة استراتيجيّة مُحكمة، تهدف إلى استثمار الأراضي الزّراعيّة المُهملة، وخصوصًا المرويّة منها. وفيما الإقتصاد هو أرضٌ خصبةٌ ومرنة للقطاعات الإنتاجيّة لتطوير نفسها، يجب الإستفادة أيضًا من تجارب البلدان الأخرى الغنيّة بالموارد، والتي انهار إقتصادها فجاع مواطنوها مثل فنزويلا، نتيجةً لغياب الخطط الإستباقيّة للأزمات.
كيف يُسهم قطاع إنتاج الضّروريّات في الإطاحة بالمجاعة؟
فلنفكّر جذريًّا انطلاقًا ممّا تحتويه مطابخنا:
1- القمح
بحسب نقابتَيْ المطاحن والأفران في لبنان، تبلغ الحاجة السّنويّة من القمح 450 ألف طن، لا يؤمّن منها الإنتاج اللّبناني أكثر من 140 ألفًا. وعلى قاعدة ٧٠ كيلوغرامًا من القمح سنويًّا للمواطن الواحد، يجب مضاعفة الإنتاج الوطني حوالي ثلاث مرّات، أو ما لا يقلّ عن 310 ألاف طن، أي ما لا يزيد عن 80 ألف هكتار.
2- البقوليّات الجافّة: بديل غني للّحوم
بما أنّ اللّحوم باتت مكلفة، يُمكن الإستعاضة عنها بالبقوليّات الجافّة الغنيّة بالبروتين، أي الحبوب، بحسب خبراء التّغذية. فعطفًا على دراسات وزارة الزّراعة، يُزرع 10 آلاف هكتار من الحمّص، البازيلاء، العدس، الفول والفاصوليا سنويًّا في لبنان، ممّا يؤمّن 40% من الحاجة العامّة فحسب. بحسابات بسيطة، إن تمّ تخصيص 15 ألف هكتار إضافي لزيادة محصول الحبوب وتأمين الـ60% المتبقّية، يمكننا أن نستبدل اللّحوم التي سيكون إستيرادها متعثّر في الأيّام المقبلة، وإنتاجها محلّيًّا بكميّاتٍ كافية متعذّرٌ. أضف إلى ذلك أنّه يمكن زراعة هذه البقول في الأراضي غير المرويّة، وهي لا تتطلّب الكثير من العناية والأدوية والأسمدة بحسب المهندس الزّراعي زياد روحنا.
3- زيوت الطّهو والأكل
محصول زيت الزّيتون السّنوي في لبنان كافٍ لتغطية الإستهلاك المحلّي بحسب وزارة الزّراعة، حيث يتمّ إنتاج 22 ألف طن سنويًّا. إنّما الحاجة إلى الزّيوت النّباتيّة الأخرى، كدوّار الشّمس والذّرة، فضئيلة. تكمن العقبة أمام هذا الإنتاج في تأمين البذور المؤصلة غير المتوفّرة والتي تتأقلم مع مناطق الإنتاج. يُمكن أيضًا تطوير زراعة الكانولا التي تشكّل مصدرًا لا بأس به من الزّيوت. هذه الزّراعة تحتاج لحوالي 80 ألاف هكتار إضافي لتأمين الحاجة كاملة.
4- البطاطا
تُعتبر البطاطا من أساسيّات المطبخ، والإنتاج المحلّي يكفي لتغطيتها، بحيث يُنتَج سنويًّا حوالي 420 طنًّا. والبطاطا مصدرٌ لا بأس به من السّكّريّات، يُمكن استبدال الخبز به. أضف إلى ذلك أنّ زراعة البطاطا تتركّز في عكّار والبقاع، وتنحسر ضمن موسمٍ ربيعي وآخر صيفي. يعتبر المهندس الزّراعي زياد روحانا، أنّه في حال تمّ العمل على تنسيق الإنتاج بين المناطق ووفقًا للمواسم، وتخصيص 50 ألف هكتار في كلّ موسم، يُمكن إنتاج الكميّة المطلوبة من البطاطا للكفاية على مدار السّنة بأقلّ هدر ممكن، مشيرًا إلى أنّ الزّراعة العشوائيّة وغير المدروسة وفقًا لمتطلّبات السّوق المحلّي، تعوّل على المزارعين خسائر فادحة.
5- البندورة
البندورة عنصر أساسي آخر في المطبخ الوطني، وإنتاج حوالي 250 ألف طن منها يؤمّن الحاجة الدّاخليّة، وتُزرع على مساحة ٥ آلاف هكتار. روحانا يؤكّد أنّه في حال استوردنا البذور المؤصلة لهذه الزّراعة، وتمّ العمل بطريقة علميّة تحت رقابة أصحاب التّخصّص، يمكن التّأكّد من أن يفيض المحصول بكلفة زراعة واعتناء بخسة. كما يمكن للمهندسين الزّراعيّين أن يعملوا على تطوير الزّراعة واستئصال البذور منها لتغطية المواسم التي تليها.
6- اللّحوم
للّحوم والمشتقّات الحيوانيّة أهمّيّتها على مائدتنا أيضًا. تؤكّد نقابة تجّار اللّحوم استيراد بقيمةٍ لا تقلّ عن 789 مليون دولار سنويًّا لتغطية الحاجة الإستهلاكيّة من لحوم الأبقار والماعز والغنم والخنزير، بحيث أنّ لبنان لا ينتج من حاجته أكثر من 15%. من جهةٍ أخرى، ونظرًا لتعويله على الإستيراد، دخل قطاع الدّواجن بؤرة الخطر. عمليًّا، يجب استحداث بدائل محلّيّة لتغطية هذه الحاجات، وتُختصر بالعمل على تطوير تربية قطعان المواشي في أراضٍ يتوفّر فيها المرعى المناسب. اقترح روحانا أن يتمّ تشجيع المواطنين وخصوصًا الرّيفيّين منهم على إعادة تربية الدّواجن قرب البيوت، لتغطية جزء ولو طفيف من هذه الحاجة. من جهةٍ أخرى، يمكن استبدال اللّحوم الحمراء سريعًا وبطريقة سهلة جدًّا ونظيفة، بلحوم الأرانب التي تتكاثر بسرعةٍ فائقة، فضلًا عن أنّها سهلة التّغذية ويمكن مبيتها قرب المنزل.
7- الفاكهة
زراعة الفاكهة في لبنان أيضًا تكفي الحاجة المحلّيّة، بحيث أنّ المناطق الجبليّة تمتاز بزراعة التّفّاح، الكرز، الإجاص، المشمش، الدّرّاق، الخوخ، الكيوي والفراولة، فيما تمتاز المناطق السّاحليّة بزراعة الموز، اللّيمون، البابّايا، المانغو والأفوكا. هذه الزّراعات على أنواعها تكفي حاجات السّوق المحلّي. في حال تمّ الإشراف على هذه الزّراعات من وزارتَيْ الزّراعة والصّحّة، يمكن أن تؤمّن الكفاية الغذائيّة للبنان، بحسب خبير زراعة الفواكه والحمضيّات غسّان بعينو.
بحساباتٍ طفيفة، نستنتج أنّ الكفاية الذّاتيّة يمكن تحقيقها إن استثمرنا حوالي 350 ألف هكتار إضافي فقط من المساحة الزّراعيّة المتاحة في لبنان. لكن لماذا لم تُنجز هذه الخطط من قبل؟
تحدّيات القطاع الزّراعي في لبنان
تمامًا كأيّ قطاعٍ آخر، تقع الزّراعة في لبنان ضحيّة الهدر والأجندات السّياسيّة والفساد:
1- فشل الحكومات المتعاقبة في فرض سياسة الكوتا بحسب الخبيرة الإقتصاديّة كارن كعدي، والتي تقتضي باستيراد الحاجة غير المؤمّنة فقط، كي لا تضرب السّلع الأجنبيّة سوق السّلع المحليّة. كما وتأسّفت الخبيرة لعدم محاولة المسؤولين أن يفرضوا ضرائب محقّة على المستوردين، حمايةً للمزارع اللّبناني، بحيث أصبحت أكلاف الخضار المستوردة أقلّ من تلك للخضار المحلّيّة، ضاربةً سوق المزارعين اللّبنانيّين التّصريفيّ؛
2- "السّياسات اللّبنانيّة التي تنضوي تحت أجنحة حكّام فاسدين لا تعنيهم مصالح الشّعب"، بحسب ما أكّد رئيس جمعيّة المزارعين أنطوان الحويّك. كما وأكّد أنّ جمعيّة المزارعين طرحت قوانين عدّة وبادرت إلى محاولة تغطية القطاع بطرق علميّة كثيرة، مثل المطالبة بتعزيز البنى التّحتيّة، إلّا أنّ أحدًا من المسؤولين التفت إلى هذه المطالب؛
3- عرقلة سحب الإيداعات، تجميد أموال الشّركات التي تُقرض المزارعين، وتجميد الحوالات إلى الخارج ممّا دفع هذه الشّركات إلى مطالبة المزارعين بتسديد الأقساط نقدًا وبالدّولار، لتزويدهم بالسّيولة الزّراعيّة من مواد زراعيّة وبذور وأسمدة، بقيمةٍ تفوق الـ150 مليون دولار سنويًّا؛
4- غياب الضّمان الإجتماعي والصّحّي للمزارعين؛
5- فشل مشروع التّعاونيّات الزّراعيّة؛
6- عرقلة مشروع غرفة الطّوارئ الزّراعيّة والحماية من الكوارث؛
7- عرقلة مشروع غرف الزّراعة التي شأنها تحديد السّياسات واستحداث المعامل والسّعي لحماية المزارعين؛
8- عرقلة الحكومات المتعاقبة لمشروع المصرف الإنمائي الزّراعي الذي موّله الإتّحاد الأوروبّي؛
9- الإفتقار إلى المراقبة الزّراعيّة المباشرة من قبل الوزارة المعنيّة؛
10- الإفتقار إلى البنى التّحتيّة؛
11- الإفتقار إلى السّياسات الزّراعيّة التي شأنها تنسيق الزّراعة بين المناطق والمواسم؛
12- انصراف الدّولة إلى تعزيز قطاعَيْ السّياحة والتّصنيع على حساب القطاع الزّراعي، وغضّ النّظر عن أنّ هذا القطاع يوفّر فرص عمل لثلث المجتمع اللّبناني.
آمال القطاع الزّراعي
أجمع نقيب المزارعين، المهندس الزّراعي والخبيرة الإقتصاديّة على أنّ القطاع الزّراعي يمكن تحويله بسهولة إلى قطاع إنتاج ضروريّات، وقد يخرج بنتائج مذهلة، إنّما تتحتّم على ذلك إجراءات كثيرة:
أوّلًا، العمل على تطوير البنى التّحتيّة للأراضي الزّراعيّة، وتأمين مواد الزّراعة الأساسيّة من جرّارات، نباريش، قساطل، ماكينات لرشّ الأسمدة، حاويات لموسم القطف، رفوش، معاول وقطّاعات...؛
ثانيًا، دعم المزارع مادّيًّا من خلال تنفيذ مشروع مصرف الإنماء الزّراعي، ودعم الإستيراد الزّراعي ورفع التّعرفة على الخضار والفاكهة المستوردة من الخارج، فضلًا عن تحريك حسابات الشّركات الزّراعيّة لتمكينها من تمويل المواسم؛
ثالثًا، تأمين البذور المؤصلة والأسمدة والكيماويّات اللّازمة للإنتاجيّة الأفضل في المحاصيل؛
رابعًا، تأمين الضّمان الإجتماعي والصّحّي للمزارع، فضلًا عن خلق غرفة كوارث وطوارئ بيئيّة لحماية محصوله من التّقلّبات المناخيّة والكوارث الطّبيعيّة التي قد تطيح بالموسم؛
خامسًا، تعيين غرفة رقابة ومتابعة زراعيّة لمراقبة المحاصيل وإرشاد المزارعين وإنشاء دورات تدريبيّة لهم لتحسين الإنتاجيّة