عُرفوا بصلابتهم وتمسّكهم بمعتقداتهم حتى الموت، فلجؤوا منذ أكثر من 1500 عام إلى جبال لبنان التي تشبههم ويشبهونها. فتّتوا الصخور الصلبة، وجعلوا لهم أراض وأديرة، عاشوا فيها واستشهدوا. إنهم الموارنة، جبل صلب كجبال لبنان، ثبتوا في هذه الأرض حتى الموت.
حارب الموارنة دفاعًا عن أرضهم ومعتقداتهم ولم يتعبوا. بذلوا أرواحهم من أجلها، وكانت علاقتهم بلبنان وثيقة وقويّة، وكلّما اختلطت دمائهم بترابه، إزدادت هذه العلاقة متانةً.
ومن شهداء الموارنة الأوائل، ثلاثة وخمسون راهبًأ تقياً، عاشوا في دير مار مارون العاصي، تبعوا تعاليم القديس مارون، وتعاليم المجمع الخلقيدوني الذي قبل بطبيعتي السيد المسيح، البشرية والإلهية. كانت هذه المسألة، محور خلاف عقائدي في الكنيسة حول العالم، فانقسمت الكنيسة بين المعتقدين أن للمسيح طبيعة واحدة من جهة أولى، والمؤمنين بطبيعتيه من جهة ثانية. وأدى هذا الإنقسام إلى معارك ومجازر كبيرة، كان لموارنة لبنان حصة منها. فقام عليهم ساويرس بمساعدة الملك انسطاس الذي كان قد نصبه بطريركاً على إنطاكية، فقتل منهم ثلاثمئة وخمسين راهباً وكثيرين غيرهم من الرهبان والأساقفة عام 517.
تحتفل الكنيسة المارونية، بذكرى هؤلاء الشهداء في الحادي والثلاثين من شهر تموز. وقد خصهم بالذكر البطريرك الماروني في رسالته إثر إعلان سنة الشهادة والشهداء، إلى جانب البطاركة الموارنة الذي أدّوا دورًا كبيرًا وقدّموا أنفسهم على مذبح هذه الشهادة.
في التاريخ، عانت القومية المارونية الكثير في سبيل الدفاع عن إيمانها المسيحي المستقيم، بدءًا بمجمع خلقيدونية، ووصولًا إلى العهد الأموي والعهد العباسي وعهد المماليك وعهد العثمانيين، ولكن الموارنة اغتنموا جميع الفرص للدفاع عن أنفسهم ولجأوا الى الجبال حيث حفروا المغاور وتحصنوا في الأعالي مستفيدين من طبيعة الجبال الوعرة التي تشكل أرض معركة صعبة للعدو المهاجم. وهجموا على المحتل مرارًا وتكرارًا وحاربوه، ورغم الاضطهاد المستمر، رفضوا أن يكونوا الرقم السهل. وعُرفت قبائل "المارديت" أي "المردة" التي كانت من الطائفة المارونية على أنها من أشرس المقاتلين وأكثرهم عنادًا متى لزم الدفاع عن الأرض والعقيدة، ولا تزال أسماء كبار هذه القبائل خالدة حتى اليوم. ف"نهر ابراهيم" سُمّي على اسم ملك المردة الذي استشهد في أحد الهجمات الدفاعية عن شعبه. وكذلك "بر الياس" التي سُمّيت في ما مضى "قبر الياس" وقد كان الياس أحد زعماء الموارنة، ناهيك عن الرهبان الموارنة الذين كانوا أول من هزم المماليك في جبيل واستردوا كنائسهم بعد أن حولها المماليك الى اسطبلات للخيل. كما أننا لا ننسى البطل القومي يوسف بك كرم الذي كان رأس حربة في الدفاع عن الوجود الماروني بوجه السلطنة العثمانية، وكتب بطولاته ما بين جرود تنورين وبنشعي، حيث ألحق بالعثمانيين الهزيمة الشهيرة. ولا ننسى كذلك طانيوس شاهين "شيخ الشباب"، الثائر الشرس بوجه الظلم والذلّ...
نأسف اليوم على كل تلك الأحداث الأليمة التي عشناها ونعيشها، ولا نتمنى الحرب ولا نطلبها. ولطالما اعتبرنا المقاومة والاستشهاد فخرًا لنا، ولكننا نؤمن أن الحياة فخر أكبر، ونأسف على من يروّج اليوم لعقائد تبيح القتل والاحتلال والتعدي على الآخر بسبب الاختلاف في المعتقدات. فمهما كان المعتقد، تبقى الأوطان للجميع والديانات لله. صحيحٌ أننا نفتخر بتاريخنا، ولكننا اليوم نتمنى أن نعيش مستقبلنا بشكل أفضل إكرامًا لشهداءنا، ونشدد على رفضنا للمذابح وللمعارك الجديدة التي تتنازع حول "طبيعة الله" أو "جنس الملائكة" أو أي من الأسباب الأخرى...
حمى الله لبنان