أيّهما أرحم الموت من الجوع أو العيش في الذل؟
بين عامي 1915 و1918 في جبل لبنان، ما بين 120 ألف و200 ألف لبناني، أي ثلث عدد السكان آنذاك، قضوا في مجاعة تُعدّ أسوأ المآسي وأبشعها التي عاشها شعبنا. فما تزال حرب إبادة جماعية بحقّه راسخة في اللاوعي عند اللبنانيين حتى يومنا هذا.
لمحة تاريخية عن أبرز أسباب المجاعة التي نتجت من الحصار البري الذي فرضه الحاكم العثماني جمال باشا على جبل لبنان والحصار البحري الذي فرضه الحلفاء آنذاك، بالإضافة إلى آفة الجراد ومصادرة الجيش العثماني للحبوب والماشية، وفساد الإدارة العثمانية وشركائها اللبنانيين والمضاربة بأسعار المواد الغذائية، والغلاء الفاحش الذي مارسه بعض التجار والمرابين، ممّا رفع أسعار القمح والحبوب والطحين ورغيف الخبز. سيطر موظفون عثمانيون وشركاؤهم اللبنانيّون على محاولات المساعدة، وبيعت المواد الغذائية هذه بأسعار تفوق الخيال. كذلك توقف وصول تحويلات المغتربين المالية إلى أهلهم بسبب الحصار، وتفشّت أمراض عديدة كالتيفوئيد والتيفوس.
فهل هذا السيناريو الذي قرأناه بعيد عن الحالة التي نعيشها اليوم؟ ما الفرق بين المجاعة الكبرى التي عاناها شعبنا منذ مئة عام وما نعيشه اليوم؟ في مفهومنا الحالي لم تعد تسمى مجاعة؛ في القرن الواحد والعشرين أصبحت تُسمى أزمة اقتصادية أو انهيار اقتصادي.
فُرض اليوم على وطننا والعالم أجمع حصار بسبب فيروس الكورونا يهدّد صحتنا وصحة أهلنا، ممّا أدّى إلى إغلاق كلّ المنافذ البرية والبحرية. لكن الأسوأ من كلّ هذا هو الحال الذي بلغه مجتمعنا؛ ففساد بعض السياسيّين ليس ببعيد عن فساد العثمانيين وشركائهم اللبنانيين سابقًا الذين لم يستطيعوا إيجاد حلّ مناسب لهذه الأزمة. إذ تخطى الدولار عتبة 4000 ليرة لبنانية وتجاوزت أسعار السلع والمواد الغذائية لحدّ الجنون بحيث لم يعد يستطيع الفرد شراء أساسياته وتأمين قوته اليومي.
ما أشبه تجار الأمس ومرابيه ببعض الصرافين اليوم وبعض تجار المواد الغذائية الذين يحتكرون كلّ شيء من دون ضمير مستغلين جوع المواطن ومتواطئين مع الحكام الفاسدين على التلاعب بأسعار الدولار والمواد الأولية. وما أشبه محاولات حلول الأمس باليوم بحيث أصبحت المساعدات للعائلات الأكثر فقرًا مرصودة للتنفيعات والزبائنية السياسية. وعلى الرغم من كلّ ما تحاول الدولة القيام به كدعم مصرف لبنان للمازوت والقمح، إلّا أنّها تتقاعس هي نفسها عن تنفيذ مسؤوليتها أمام ضغوط أزلام الجشع والعمالة فيما يتعلّق بالتهريب إلى الخارج عبر المعابر غير الشرعية، فتحرم بالتالي النعمة من أمام شعبها.
ووصلت أوجه الشبه إلى أن حتى الأموال التي تأتي من لبنانيّي المهجر لأهلهم حرموا منها، فلم يعد يستطيعون استلامها ولم يعد يستطيع كل صاحب حقّ ومودع وضع جنى عمره في المصارف من استلامها. أو ليست هذه جريمة ممنهجة بحقّ الشعب اللبناني لتجويعه وإضعافه كما حصل عام 1915؟ هل فعلًا التاريخ يعيد نفسه؟ هل حقًا نعيش اليوم مجاعة القرن الواحد والعشرين ومرارتها؟
صحيحٌ أنّ في أيامنا هذه قلّما تموت الناس من الجوع والمرض كما السابق، لكنّ القهر والذل والبطالة والقلة التي نعيشها تقتل النفس ألف مرة كلّ يوم. عذاب كل مودع ضاع جنى عمره وكلّ رجل لم يعد قادرًا على إطعام عائلته. فأيّهما أرحم، الموت من الجوع أو العيش في ذلّ هكذا؟