لم يتعب السوريون في محاولاتهم الحثيثة لإحكام السيطرة على لبنان، وهم يسعون منذ نشوء الجمهورية العربية السورية، أن تضمّ لبنان الى محافظاتها، فالنوايا السورية تجاه لبنان لم تتبددل يوما. وإذا كانت المناطق الحرّة عاصية على النظام السوري، إنما هذا لم يمنع النظام الجار من القيام بمحاولات لإحداث الخرق ولضرب وحدة المناطق الحرّة عبر زرع عملاء داخل المجتمع المسيحي. ومن هؤلاء مَن كانت عمالته ظاهرة، ومنهم مَن كان خفيّـًا.
وفي صباح السبت 13 تشرين الأول 1990، في الساعة السابعة والدقيقة الخامسة، تولى سرب من الطيران الحربي السوري وبكل أسف قصف قصر بعبدا ووزارة الدفاع في اليرزة وعدد من مرابض المدفعية. سقطت الخطوط الحمر التي كانت تمنع النظام السوري من دخول المناطق الحرّة.
ومعها سقط نخبة من شهداء الجيش اللبناني على الجبهات، بالإضافة إلى إعتقال وخطف العشرات من اللبنانيين واقتيادهم إلى سوريا. اعدموا حوالي 120 ضابطاً، رتيباً وجندياً لبنانياً . سرقوا ملفات وزارة الدفاع الوطني... وبعد 45 دقيقة، أعلن عن وجود العماد عون في السفارة الفرنسية في الحازمية.
ومن هناك، من السفارة، أعلن العماد عون إستسلامه. فأذاع بصوته بيانًا مقتضبًا قال فيه:"بسبب الظروف السياسية والقتالية والعسكرية الراهنة، وحقنًا للدماء، وتخفيفًا للأضرار، وإنقاذًا لما تبقى، أطلب من أركان قيادة الجيش تلقي الأوامر من العماد إميل لحود".
وقبل ساعات من الاجتياح نفى الجنرال الجمعة 12 تشرين الأول 1990ما نقلته "رويتر" عن اتصال تم بينه وبين احدى سفراء الدول لكي يخلي قصر بعبدا ويشكل حكومة منفى في فرنسا، وعلق حرفيًا:
"لا يطلبون عادة من الوطني أن يترك وطنه ويذهب. يطلبون من العميل الهرب إذا أرادوا إعطاءه فرصة..."
مرّ في تواريخ الشعوب قادة وزعماء لم تظهر حقيقة جنوحهم العسكريتاري الذي أدّى بنهاية مطاف محطته الى التملّك بمرض "جنون العظمة" واذا ما دللّنا على أمثلة لم يمرّ عليها الزمن، لاستعدنا تجربة أدولف هتلر مطلق التيار النازي، وتجربة بينيتو موسوليني مطلق التيار الفاشي ... وفي المثالين تظهر الشعبوية والجماهيرية والتعبوية، وهذه كلّها مفردات تدلّ على معنى الجمهور الواسع والعريض لهذين الزعيمين اللذين عمّما التاريخ بصفحات أمجادهما ولكن الأمجاد المدمرة والكارثية.
وعندنا في لبنان، تجربة معاصرة، لم يعرف تاريخنا السياسي مثيلاً لها على مستوى الجنون والجنوح باتجاه إنتحار الذات ونحر المصير وحرق الأصابع وتبديد المال وهدم سقف المنزل ...
إن التاريخ لن يرحم من كان على علم بحصول عملية عسكرية سورية لاسيما تحذيرات أحد السفراء بإمكانية حصولها. فكان التوقيع على وثيقة من عشرة بنود ليل 12 تشرين الأول 1990 تضمنت إعترفاً بشرعية الرئيس إلياس الهراوي وموافقة الجنرال على دخول الحكومة. والوثيقة سلمت للسفير الفرنسي في لبنان موقعة من العماد ميشال عون.
إن التاريخ لن يرحم من سيعود بعد سنوات لينتهج أسلوبا وشعاراً وسياسة تناقض كل ما قاله وانتهجه وسار عليه فترة توليه الحكم .. طالما أنّ ما قام به في تلك الحقبة، هـشّـلـّـت... هـجّـرّت... أبـعـدتْ... أكثر من ثلاثمئة الف مسيحي عن لبنان..
إن التاريخ لن يرحم من سيعود ليقف مع ميليشيات تحمل السلاح... تسيطر على مناطق لا تسمح للدولة أن تبسط سلطتها عليها...
إن التاريخ لن يرحم من سيعود مع سوريا... سيسامح النظام السوري... سيبرئ النظام السوري... سيفتح صفحة قديمة... سيفتح باب استذكار تلك الرسالة الشهيرة منه الى قائده المحبب حافظ الأسد...
لماذا يا جنرال عون فعلت ما فعلته؟
إن التاريخ لن يرحم من قتل القتيل ومشى بجنازته والرحمة والسلام على شهداء 13 تشرين الأول 1990.