إن كان أكثر ما أثار الشارع اللبناني خلال سلسلة جلسات الثقة يتركز على بعض الشتائم وتهم العمالة الجاهزة التي أضعها في خانة "الإناء الذي ينضح بما فيه"، فإنّ أكثر ما استفزّني شخصيا يحمل طعما قريبا بعيدا - قريب قرب منطقتي كسروان، وبعيد بعد من يمثلونها - عن قيم ومبادئ راسخة في مجتمع يفترض أن يكون نوابه صوتا له. فكم هو معيب أن يستخدم كل البعد التمثيلي لقضاء يجسد عمق الحضور الماروني كوسيلة مسيّرة لتحقيق مشروع إقليمي غريب عن كسروان وأهلها، عبر حكومة لم يكترث طبّاخوها لإضافة أي مكوّن كسرواني إليها، بل أمعنوا في وضع فيتوات على وزراء المنطقة كعقاب لحماستهم وخوفا من تميزهم.
وفي هذا الإطار، لن ألوم زعيما حطّ رحاله في كسروان تحضيرا لتهميشها ولإطلاق معاركه الأخرى على حسابها، ولن ألوم سيّدة فاضلة بقيت على عادتها صامتة في ظل تغييب كامل للمرأة عن السلطة التنفيذية العتيدة، ولن ألوم طبيبا محترما لم يطبع النشاط التشريعي يوما عمله النيابي... إلا أن اللوم الأكبر يبقى على من عرفناه صوتا صارخا إلى جانب قضايا لبنان المحقة، وما تعودناه واقفا في مواجهة عوائل شهداء مظلومين، في ظل تغييب غير مبرر لمنطقته. العتب الكبير أيضا على أحد أعلام علوم السياسة في الوطن، الذي أحببناه أستاذا صديقا ولم تطب لنا رؤيته تلميذا طيّعا في ركب عسكري.
كيف يمكن أن نرتضي تذويب كسروان وخطف تمثيلها بالجملة لتصديق أعمى على مشروع مواجهة، قائدها مرشدٌ أعلى وعرّابها نظامٌ يتخلخل يوما بعد يوم تحت وطأة دماء شعبه الثائر؟ كيف لكسروان أن تساهم في محاربة مشاعر وأوجاع أنسباء ورفاق الشهداء، وهي المعنية المباشرة بالمحكمة عبر الفراشة مي شدياق التي طالتها يد الغدر في غدير، قلب كسروان؟
وهنا يكمن الفرق بين كسروانهم وكسرواني...
كسروانهم تردٍّ مزر في الحضور التشريعي وغياب تنفيذي تام، أما كسرواني فصوتٌ صارخ حرّ إلى جانب الحق والحقيقة...
كسروانهم رابية مرتهنة لحارة ومستزلمة لريف، أما كسرواني فروابي طبريه وجمال جعيتا ووداعة حريصا وصلابة معراب...
كسروانهم صراخ محلّي فاجر لا يلبث أن يخفت متى أنزل الكاتم الإقليمي، أما كسرواني فحكمة بطريرك هادئ رفع مجد لبنان من مسقط رأسه ريفون إلى منارة بكركي فدخل التاريخ من بابه الواسع...
كسروانهم أداة طيّعة في خدمة مشاريع غريبة وحاقدة، أما كسرواني ففاريا الطاهرة وجونيه اللؤلؤة، التي يحلم كل لبناني وأجنبي أن يقطنها وينعم بربوعها وبضيافتها...
وقد تبدو هذه السطور مطبوعة بلغة مناطقية، إلا أنّها تعبير منطقي عن جرح عمقه تراجعٌ لافت في دور منطقة لطالما طبعت ضمير كل لبناني...
إلا أنه لا خوف على منطقة جبلها شامخ وخليجها مشعّ لامع... لأن كسروانهم غيمة عابرة في أفق التاريخ، أما كسرواني فإرثٌ مشرق ودورٌ رائد في غد مقبل...