من الزنازين والفروع، إلى تدمر " الداخل مفقود... والخارج مولود"، فصيدنايا " فنيسيا السجون السورية"....
لا قاضٍ، لا محامٍ وبالأساس لا محكمة معترف بها بإختصار بدأت المعاناة، في ما يشبه المحكمة، انها محكمة سورية عسكرية ميدانية، قاضيها عنصر لا يخطئ، وجب عليك احترامه، اياك تكذيبه كي لا يضطر الى اعادة التحقيق الحضاري بوسائل الضرب المحترمة، وبعدها حان وقت توقيع المحضر، بكل ثقة قررت ان ابصم بيدي اليمين فكان الجواب: " مو حَ نعدمك لتوقع باليمين، بصوم بالشمال"، إنه الاكتشاف الاول ل "علي بو دهن" في السجون السورية، البصمة اليمنة للإعدام، أمّا اليسرى فأرحم انها بصمة المؤبد.
تسعة اشهر امضاه الرقم 13 في زنازين وفروع " الشام خيّو" المظلمة لينتقل بعدها في زيارة لا يعلم مدتها الّا الله، انها رحلة السجين رقم 13 " إلى جهنم الحمرا" كما يحلو له ان يسميها، وهنا بخفة ظلٍ يستذكر هذه القصة:
" يحكى ان رجلاً خاطئ مثل امام الله ليحاكمه، فاخبره بانه عليه ان يقضي حكمه في جهنم، لكن الله تابع قائلاُ، بس انا بنصحك بجهنم ما تتشيطن زيادة لانو ببعتك على تدمر"
بإختصار نقل علي بو دهن الى ما هو اسوء من جهنم الحمرا، نقل الى سجن تدمر صاحب الشعار الشهير فوق مدخله: " الداخل مفقود... والخارج مولود" وكان له ولرفاقه مراسيم الاستقبال التاليّة، التي كان لنا شرف الاضطلاع عليها من مذكراته التي يعكف على كتابتها اثناء اجراء المقابلة معه:
كان درب الدخول محمياً على جانبيه بعدد من عناصر الشرطة بكامل العتاد ( كابلات عريضة، قشط...) بإختصار كل ما يؤلم مسموح، تتعرض للاهانة والذل والضرب حتى تشك انك من صنف البشر، تجلس القرفصاء الى جانب رفاق لم تعلم بوجودهم، واذا بصوتٍ مدوىٍ يتلو عليك خطاب الاستقبال، بعد ان فكوا قيودنا ليس احتراماً انما لوجوب التصفيق في نهاية هذا الخطاب:
" ايّها المنايك الحقراء الكلاب الكرام...
لقد اتيتم الى مثواكم الاخير، حيث ستموتون ميتة الكلاب وتسحبون كالبهائم بعد موتهم، لكن انتم يا اوسخ البهائم سنزحلكم ونجركم وانتم احياء، وبذلك ميزة حسنة لكم، ستتقاسمون حص الزيتون فالجوع والخوف والجرب رفيقكم.
هنا جهنم الحمراء كما تسمونها في اديانكم، لا تنتظروا الرئفة والرحمة منا ولا من الله، لانه لا يدخل الى تدمر، ولكم في كل يوم قتلة، الى ان تموتوا. واذا مات احدكم، سيدفن جنبكم في جورة من البراز.
ايها الكلاب.... قولوا حاضر.
المساجين: حاضر.
اذا استحلا شي عسكري واحد منكون مسموح له... وللشرطي الحق ان يفعل بكم ما يشاء، كلمة "لا" ممنوعة من قاموص تدمر، " حاضر حضرة الرقيب" هي الكلمة الوحيدة التي تقال هنا. ممنوع حدا يطلع بالشرطة والا تفقأ عينه، ابقوا ايديكم دائماً خلف ظهوركم، رأسكم واطِ على طول انتوا ما عملتوا شي بيرفع الراس... من شان هيك وطوا روسكن على طول، انتم حثالة المجتمع ونحن في الشرطة العسكرية لا نرحم ابداً، فلا تطلبوا الرحمة نحن من لا قلب له، ونحن في الشرطة العسكرية اوسخ من في الجيش وفصيلتنا هي الاقذر، فلو وجدوا من هو اسوء منا لجلبوه اليكم فوراً
انتهى الخطاب ولا... اين التصفيق!!! وقفوا ولا... زقفوا
صفق المساجين في بداية رحلتهم الجديدة في سجن تدمر.
اربع سنين وسبعة اشهر قضاها علي حافياً، مهدداً بالضرب حتى الموت في اية لحظة حتى داخل مهجعه، مطمّش الاعين في الليل، اذما جرح في يده او رجله وجب عليه تحمل جرح آخر في الناحية الآخرى من جسده كي لا يبدو مشوهاً فتضيعه امه حسب قول السجّان، ومن انواع العقاب حلق جفون العين فلا يستطيع النوم مغمض العينين لمدة لا تقل عن خمسة ايام...
نهاية عام 1992 وبداية 1993 كانت لعلي بمثابة ولادة جديدة فهو انتقل الى ما شبهه بفندق فنيسيا مقارنةً بجهنم تدمر، هناك الملابس مؤمنة ولو بتواضع، الحذاء موجود، يمكنك النظر الى السجان، بضع زياراتٍ من الاهل حصلت في البداية ولكنها ما لبثت ان انقطعت من دون سبب...
في فندق علي الجديد، جريدة البعث مسموحةٌ كما الراديو مما مكنه من سماع مناقشات البرلمان اللبناني، ومن بعدها معرفة خبر وفاة حافظ الاسد، التي الزمته ورفاقه زنازينهم خوفاً من عملٍ انتقامي لا زنب لهم فيه... ولم يغفل عن بعض المساجين في ذاك الحين سماع بيان المطارنة الموارنة الشهير ما اعطاهم جرعة امل بان فجر الحريّة بدا قريب...
8 كانون الاول 2000: بزوغ فجر الحرية... آه يا حريّة.
يخبر علي بو دهن: فيما كنت اتمشى في باحة السجن وحيداً فوجئت بأمر السجن يومئ لي فتقدمت نحوه وكان وقع المفاجأة الأولى، انه يناديني بإسمي ويقول: " روح ضب تيابك، بدك تفل عل البيت"، رفضت تصديق الخبر وأجبته: " دخيلك ما تمزح معِ ما بحمل هيك مزحة" فأراني ورقة تتضمن اسمي وأخفى بقيّة الاساء والمعلومات، ما جعلني اتسمر في مكاني، مما استدعى تدخل رفاقي المساجين، لمساعدتي على تغيير ثيابي والتحضر للانتقال الى المجهول اذ انني ورفاقي ظننا اننا نتعرض لخدعة جديدة ورحلة جديدة... جمع لي رفاقي حوالي 6000 ليرة سورية، هي بمثابة ثروة لمن هو في السجن، وائتمنوني على قضيتهم ان كانت رحلتي نحو الحريّة قائلين: " أمانة ما تنسانى اذا طلعت لبر... طالب فينا".
في الطريق الى الحرية، شروطٌ كثيرة، فانت مجبور على التوقيع على عدم تعرضك للتعذيب والعنف في السجون السورية، حقوقك لم تهن ولم تتعرض لأي اذى... وقعت وانتقلنا بالباصات الى الحدود اللبنانية التي وصلناها معصوبي الاعين، مكبلي الايدي، لا حق لنا حتى بتقيل ارض وطنناً الغالي، انما وجب علينا التوجه للتحقيق من جديد في سجن وزارة الدفاع الوطني اللبناني حيث ولاول مرة نشعر بأننا عدنا بشر، فكت قيودنا، وازيلت عصبة العين، وبعد التحقيق المختصر الذي لم استطع الا وان اعرض خدماتي على المحقق ممازحاً، قائلاً: " اذا بدكن ساعدكن بالمفاوضات مع اسرائيل ما توفروني، ان عند علاقات مع ثلاث رؤساء للوزارة في اسرائيل، حسب ما يذكره الملف الموجود امامكم"، فكان الجواب: " روح انت ما عليك شي، بكرا عل الكتير بتكون ببيتك"
يا بو دهن شو بعدك عم تعمل هون؟؟
ليل 12 كانون الاول نقل علي بو دهن الى مبنى العدلية، تمهيداً لإطلاق سراحه، وهكذا بعد حوالي 13 سنة من الاعتقال، اطلق سراح علي الذي لم يجرأ على تصديق هذه الحقيقة، فهو خرج من مبنى العدليّة وادلى بتصرحين لكل من ال
MTVو
LBCمخبراً عن معانته في السجون السورية وما ان انهى تصرحيه اتكأ على حافة قريبة منتظراً العودة الى الداخل: " ما كنت عارف انو عن جد صرت حرّ، كنت مفكرَ فشّت خلق ومن بعدا بدنا نرجع عل نظارة"، ويكمل حديثه مخبراً: " سمعت صوت عم بقول، يا بو دهن شو بعدك عم تعمل هون، ما بدك تروح على بيتك؟" جاوبته: " ليش ما بدنا نرجع عل نظارة؟ ... فكان الجواب انت اصبحت حرّاً عد الى بيتك واهلك...
لم اصدق الخبر من شدة الفرح، كادت السيارات تدهسني وانا اقطع الطريق، اسقليت احدى سيارات الاجرة وطلبت منه ايصالي الى منزلي في الدواكنة، المعالم تغيرت فلم استطع معرفة مكان منزلي عندما دخل السائق من ناحيّة السلاف، طلبت منه ان يوصلني الى شارع النافعة ومن هناك توجهت الى منزلي.
لقاء الاحبّة... والعودة الى الحياة من جديد.
" وصلت عل البناية، خفت اطلع عل بيت دغري، قلت بفوت لعند الجيران وهني بي خبروا عيلتي" قرعت باب الجيران، فتح الباب، واذا بالجارة تسقط ارضاً، لم تصدق هول المفاجأة، بعدها توجهت الى منزلي في الطابق الخامس، قرعت الباب، فكانت زوجتي حاضرة للاستقبال، لكن المفاجأة لم تسعفها، فسقطت ارضاً، مررت من فوقها، دخلت غرفة الاستقبال بدأت اقبل الجميع من دون اسنثناء فأنا لا اعرف احداً منهم، لا اعرف اولادي، انتهيت من السلام وعدت لأسئل عن ابنائي، حضنتهم بقوة، بعدها عدت لاسئل عن زوجتي، فكان عناق عابق برائحة ماء الورد... ومن بعدها كانت معركتي الجديدة مع عالم التكنولوجيا، اعطوني هاتف لأكلم اخي، ولم افهم فكرة ان الهاتف اصبح من دون شريط ... وشاءت الصدفة ان اتلقى اتصال من احد الاصحاب الذين شاهدوني على شاشات التلفزة، وكان الهاتف الخليوي في يدي، عندما ارتج ظننت ان ماساً كهربائيً حصل، فرميت الهاتف من الشرفة..."
بعدها كان من الصعب على المعتقل السابق علي بو دهن ان يمييز بين تصرف الشرطة والعسكر السوري، وبين اللبنانيين منهم، حتى شرطي البلدية تحشاه، خوفاً منه ... وينهي حديثه عن هذه المرحلة قائلاً الى يومنا هذا تمر اوقات اخشى فيها الشرطة والجيش... في الليل توقظني زوجتي بعد ان اكون خضت معارك في الاحلام ضد السجانين والشرطة والعسكر...
14 آذار 2005 ... نبحَ صوتي طوعاً هذه الرة.
شاركت في الثورة الحلم، كنت ورفاقي المعتقلين من الاوائل الذين نصبوا خيمةً في ساحة الشهداء، وعملت مع الرفاق على جمع اسماء المعتقلين تكوين ملفات لهم، لكي نوثق عذابتهم، ودعونا كل من له قريب معتقل ليعطينا المعلومات عنهم لكي نكون الصوت الصارخ للمطالبة بحقوقهم... وهنا اذكر نهار 14 آذار 2005 يومها للمرة الثانية في حياتي بحَ صوتي، الاولى كانت في عتمة الزنازين خوفاً من الإخوان، امّا هذه المرة فكانت لشدة فرحتي، يومها صرخت من كل قلبي للبنان السيد الحر المستقل.
26 نيسان ،2005 فل السوري بس القضيّة ما خلصت...
" شو بعنلي 26 نيسان 2005، احلى نهار بحياتي لأني شفت بلدي عم يتحرر، بس في غصة بقلبي... في اخوة النا بعدون بالسجون السورية، وانا كرئيس للجنة اهالي المعتقلين بالسجون السورية، الحمل كبير عليّ... عم نحمل القضية ونطالب فيّون، بس القصة صعبة، الدولة ناسيتنا" يضيف علي ان البعض نسي القضيّة، اما نواب القوات فلم يتخلوا عنا، ويذكر ان النائبين ايلي كيروز وانطوان زهرا تقدما بمشروع لمساوتنا بالمعتقلين المحررين من السجون الاسرائيلية، ولكن المجلس لم يبت به، فعاد النائب ابراهيم كنعان ليقدم المشروع من جديد بصفة المعجل المكرر قبل انتخابات العام 2009 ...
هل من امل بأن يعود المعتقلين اللبنانين من السجون السورية؟
وبكل حسرة يجيب علي بو دهن: " غيرنا نحبس 27 سنة باسرائيل وطلع معو دكتورا، نحنا طلعنا نسيين اسمنا ونسيين كيف منمضِ، ظلم الشقيق اقصى من ظلم العدو..." بالحقيقة يخبر علي ان الوضع في السجون السورية اصبح اليوم اصعب، ونحن كلجنة لا نملك مخابرات لنتقصى عن المساجين في سورية، ولكن بصيص الامل يبقى، فمنذ فترة غداة العفو الرئاسي الذي اصدره بشار الاسد، في سورية استطعنا ان نتأكد من وجود احد اللبنانين، وهو المعتقل شامل كنعان عنصر في الجيش اللبناني، فاحد المعفى عنهم، وهو فلسطيني الجنسيّة، التقيت به وقد تعرف عليه من خلال الصور، قائلاً: " هذا الشبعاوي، نسبةً لبلدته الجنوبية شبعا" مؤكداً انه قضى فترةً من حكمه معه في نفس السجن، وقد وصلته بعائلة كنعان التي تأكدت من انه التقى بإبنهم في سورية...
"الامانة يلي حملوني هي رفقاتي بسجن صيدنايا رح كفي احملَ وطالب باطلاق سراحن حتى آخر لحظة بحياتي"
في نهاية الحديث، ما هي الرسالة التي توجهها؟
بدايةً، الى رفاقي الذين حملوني الامانة وانا خارج من سجن صيدنايا، اعاهدكم بأن احفظها حتى اخر لحظة في حياتي، وكم اتمنى لو كنت مسؤولاً وباستطاعتي ان ادخل الى السجون السورية واطلق سراحكم...
اما الى طلاب القوات اللبنانية، قأقول لهم، كما كنتم في الماضي مقاومة من اجل لبنان طلاباً كنتم الى جانب قضيتنا، تخرجنم من الجامعات من دون ان تنسونا، في وظائفكم تابعتمونا، استمروا في عطائكم، لا تخافوا فلولا مطالبكم، واعتصامتكم ومظاهراتكم... لم يتحرر لبنان ولم ننعم بالحريّة
الى الدولة اللبنانية اقول: " نحنا كمان لبنانيّ، اطلعوا فينا، وانصفونا"