دير السيدة حماطورة: أنشودة الخالق في صمت الطبيعة.
كزدورة APR 16, 2012
يقع دير رقاد والدة الإله دير"السيدة" حماطورة في بلدة كوسبا (الكورة، طرابلس)، وهو يشهد على تاريخ غامض ونضال مستمرّ لصمود كنيسة الحجر والبشر.



في مكان بعيد، في قلب الجبل بين الصخور الطبيعيّة وبعد سلك طرق غير معبدة وتسلق مئات الأدراج تصلّ إلى لوحة الله في وسط الطبيعة إلى دير السيدة حماطورة، أحد أبرز الأديرة الأرثوذكسيّة الأثريّة في لبنان التي ما زالت حتى اليوم تعج بالمصلين والحجاج الذين يلتمسون شفاعة القديس يعقوب الحماطوري الذي عاش في الدير أيام المماليك وكان رئيسا له، وأعاد تثبيت الحياة الرهبانيّة فيه بعد أن دمرها ظلّم المماليك، فخاف هؤلاء من إندلاع الثورة على يد الراهب القديس وقرروا تحويله عن المسيحيّة وجعله مسلماً لكن محاولاتهم فشلت. إقتاده المماليك مع عدد من الرهبان والعلمانين إلى طرابلس مقر الوالي، فتعرض هناك لشتى أنواع التعذيب والتهويل ما يقارب السنة، رافضًا نكران إيمانه، فنال إكليل الشهادة بعد قطع رأسه، وأحرقوا جسده لكي لا يسلموه إلى الكنيسة فيكرم كشهيد. لكن روح القداسة التي رافقته طوال حياته حتى إستشهاده عبقت داخل الكنيسة الأرثوذكسيّة التي أعلنته قديساً. وبحسب ما أكد رهبان الدير القديس يظهر مراراً على المؤمينين لا سيما في كنيسة الدير.



يعود الدير إلى القرن الخامس ميلادي، حيث يطابق المذبح مع مذابح الكنائس والأديرة في ذلك العصر، رغم تعرضه لتغيرات جذريّة في ما يتعلق بهندسته المعماريّة من جراء الزلازل والحروب التي لحقت به. وتعود الأيقونات المنقوشة على جدرانه إلى حقبات فختلفة، من القرن الخامس والسادس، ولكن القسم الأكبر منها رسم في القرن العاشر إثر حرب الأيقونات التي بدأت بعد صدور قرار عن الإمبراطور آنذاك بمنع تكريم الأيقونات في الكنائس، فباشر الجنود بتلفها والتعرض إليها بمختلف الوسائل... وتحوي الكنيسة اليوم على العديد من الأيقونات أبرزها للقديس يعقوب الحماطوري، القديسّين حنّة ويواكيم جديّ المسيح، القديسة والدة الله مريم العذراء، والقديس يوحنا المعمدان...



تعرض الدير للإضطهاد في مختلف الحقبات خصوصاً في عهدي المماليك والعثمانيين. في أيام المماليك كانت الجيوش تصادر منتوجات الدير وتعذب الرهبان وتعاملهم بقسوة، وكان أهالي القرى المجاورة يهّربون الشبان لكي يحتموا في كنفه، فتجمع حوله بعض الناس الذين بدأوا العمل في الأرض مع الرهبان وأنشأوا قريّة إسمها "كربريبا" ولكن سكانها إنتقلوا منذ حوالي النصف قرن إلى القرى المجاورة للعمل والعلم.
ويحكى أن الممليك قاموا بقتل حوالي الخمسين راهباً في فخّ أوقعوا به الرهبان بعد تظاهر أحد الجنود بالمرض وإسراع الرهبان لمساعدته.
أما العثمانيين هجموا مراراً على الدير، وقصفوه بنوع من القذائف التي كانت تصنّع في تلك الفترة وألحقوا أضراراً جثيمة فيه.



بالإضافة الى العنف البشريّ، تعرض الدير للعديد من العوامل الطبيعيّة القاسيّة وعدد من الزلازل كان أبرزها في العام 1600، حيث صمد الرهبان فيه حتى العام 1917، حين ضرب لبنان زلزالاً كبيراً ادى إلى ردم جزء كبير من الدير، ورغم الجهود المستمرة حتى اليوم لم يتمً ترميم سوى 10% من الحجم التاريخي للدير.
وتشهد المخطوطات على التاريخ العريق لهذا الدير حيث يعود أقدمها للقرن العاشر، وهي تعود لمستشرق فرنسي تكلم عن تاريخ الأيقونات، ويأكد مخطوط لسائح روسي زار الأديار في لبنان أن دير حماطورة كان يمتد على كامل الجبل بحسب وصفه الدقيق له.



و هناك عدداً كبيراً من الخطوطات ما زال مفقوداً، على الرغم من أن بعض الرهبان وجدوا حوالي ال100 مخطوط في جامعة أوكسفورد في الولايات المتحدة الأميركيّة، وعدد آخر في الفاتيكان وفرنسا، ولكن معظم مصادر المعلومات لا تتعاون لأنها إشترت تلك المخطوطات وأصبحت اليوم ملكاً لها.

وفي نظرة هندسيّة، يشبه هذا الدير بعض الأديرة في تركيا وأخرى في فلسطين من حيث مكانه وإمتداده على كامل الجبل. وفي ناحيّة أخرى يشبه أديرة يونانيّة وروسيّة التي تضم إلى جانب الدير الرئيسي عدداً من المناسك والأديرة الصغيرة والكنائس التابعة لرئيس دير واحد، فهو يضم إلى جانب كنيسة رقاد والدة الله حماطورة منسك مار إلياس، وآخر للقديس يوحنا المعمدان، وكنيسة القديس مخائيل، ودير القديس جاوريوس، التابعين لرئيس دير واحد وهو الأرشمندريت بندليمون الفرح.



ناهز عدد الرهبان في حماطورة ال200 راهب لكن سرعان ما تقلص هذا العدد بعد حقبات الإضطهاد المتاليّة. في العام 1992 أتى إلى حماطورة راهب من جبل آثوس _ اليونان وحاول جاهداً النهوض بالدير لكنه لم يتمكن من ذلك  نظراً لصعوبة العيش ولكثرة الدمار اللاحق بالدير، الذي تقود إليه مئات الأدراج الصخريّة المرتفعة ولا سبيل أخر للوصول إليه، فالرهبان يقمون بنقل الأغراض عبر البغال وينقلون الحاجات الثقيلة على اليد...

وبعد إحتراق الكنيسة عام 1993 بسبب إضاءة الشموع من قبل المؤمنين وبسبب عدم وجود رهبان للمحافظة عليه ومع قدوم الأرشمندريت بندليمو الفرح إلى الدير أثر طلب الكنيسة  الأرثوذكسيّة عمل على إعادة تأهيله وبدأ عدد الرهبان يرتفع من جديد ليبلغ اليوم 15 راهباً.

أدى إحتراق الدير إلى إظهار أيقونات القرن السادس، التي لم يتمكن الرهبان من إعادة ترميمها بعد هجوم العثمانيين وتلفها عام 1770 فطلوها بالطين الأبيض الذي تكسر من شدة الحرارة أثناء الحريق.

في العام 2008 باشر الرهبان بترميم الكنيسة، فعثروا تحت أرضيتها على 4 جثث مدفونة بطريقة مسيحية، تبين أنها تعود لشهداء تعرضوا للضرب لأن عظامهم مكسورة، وأحد الجثث مقطوعة الرأس وعظامها محاطة بطبقة من الكلس. وبحسب العلماء، إن وجود طبقة من الكلس على الجثة يعود لسببين: الأول طبيعة التراب التي تحيط الجثة والتي قد تحوي على الكلس، وهذا لا ينطبق مع طبيعة التراب تحت الكنيسة، الثاني أن تكون الجثثة قد تعرضت للإحتراق. فتأكد حينها الرهبان أن الجثثة تعود للقديس يعقوب الحماطوري، خصوصا مع تطابق مكان وجود الجثثة ومكان ظهور القديس من جهة، وعمرها مع التاريخ المحدد في المخطوط للإستشهاد القديس من جهة أخرى.



وتحفظ رفاة القديس يعقوب وسائر رفاة الشهداء التي عثر عليها في غرف خاصة تحت  كنيسة القديس مخائيل.

هذا الدير تميز بصموده عبر التاريخ، ففي كل مررة شهد الموت والخراب تمكن من القيامة بفضل إيمان أبناء الكنيسة الذين كانو يسعون دائما للنهوض، وبعث الحياة به من جديد، فكان فعلاً أنشودة الخالق في صمت الطبيعة.
 
  
 
                   
كزدورة APR 16, 2012
إستطلاع
مجلة آفاق الشباب
عدد استثنائي
إقرأ المزيد