وكأننا ما زلنا في حقبة النظام الأمني الأسدي، الذي يسيطر على لبنان ومؤسساته عموماً، وقضائه وعدله خصوصاً!
فمهزلة الحكم الصادر بحق المجرم ميشال سماحة، تتصف بالاستخفاف بعقول اللبنانيين، وصولاً لمرحلة الوقاحة التي اتصف بها النظام السوري مدى نشأته، وحتى في أيامه الأخيرة في يومنا هذا.
المعطيات والأدلة والوقائع المادية واضحة وصريحة أمام الهيئة الحاكمة، كما هي واضحة أمام الجميع عبر تسريب أشرطة الفيديو المسجلة، والتي تدين سماحة علناً بجرمه، الذي كان سيودي إلى كارثة وطنية تهدد الأمن القومي اللبناني وتشعل حرباً أهلية حاول الجميع تفاديها، والتخلص من التحريض الطائفي الداخلي..
على كل حال..
يوضح القاضي الرئيس ميشال نخله سماحة في كتابه: "الموجز في شرح قانون العقوبات اللبناني - القسم العام"، في تصنيف الجرائم بحسب طبيعتها، الفرق ما بين الجرائم العادية والجرائم العسكرية، لمعرفة الجهة صاحبة الاختصاص لمحاكمة المجرم أو المدعى عليه: "يقصد بتعبير جرائم عادية، تلك التي ينص عليها قانون العقوبات العام والقوانين الجزائية المتممة له".
أما الجرائم العسكرية تلك التي تمس في مصالح عسكرية وتتعلق بالقوات المسلحة من جيش وما إليه.
تنص المادة 24 من قانون القضاء العسكري على الصلاحية النوعية للمحاكم العسكرية فتحدد الجرائم التي يعود لهذه المحاكم النظر فيها بصورة حصرية على إعتبار أنها محاكم إستثنائية.
وبالاستناد إلى هذه النصوص يمكن إستخلاص المعايير التي تميز بين الجريمة العادية والجريمة العسكرية من ناحية الموضوع، صفات الفاعل متى كان عسكرياً أو مماثلاً للعسكريين، وصفة المجني عليه ما إذا كان من العسكريين وومماثلاً لهم."
هذا هو المبدأ أو القاعدة، لكن على ما يبدو أن الواقع يرتكز على الإستثناء وعلى استنسابية من يديرون المحاكم الإستثنائية..
في سياق أخر، كتاب "المحكمة العسكرية وخصوصياتها"، أعطى فيه المقدم بشارة خوري وجهة نظره بعد دراسة معمقة حول هذا الموضوع: إن خلاصة القول، تتركّز حول ضرورة وجدوى تعديل صلاحيات المحكمة العسكرية بشكل يحافظ على خصوصيتها ويبرر وجودها انسجاماً مع قول فيديل (Vedel) في هذا المعنى: "إن المحاكم الاستثنائية للظروف الاستثنائية" وإنما من دون المسّ بالمسلّمات الجوهرية في مجال الحق والعدالة وحقوق الإنسان، لأن وطناً، كلبنان، من دون مؤسسة عسكرية تحمي حدوده، وتحافظ على أمنه في ظل الظروف الراهنة، هو أمر لا يمكن القبول به؛ ومؤسسة عسكرية من دون قضاء خاص بها، واضح الصلاحيات الذاتية والموضوعية، تمارس وفق اجراءات خاصة ودقيقة ومناسبة، لا يمكنها أن تفي بالدور المنوط بها على صعيد المحافظة على سلامة المواطن وكرامته، وعلى سيادة الوطن ومناعته، مع مراعاة تامة لفوقية الحق وسلطنة القانون نصاً وروحاً.
ولمعرفة المزيد عن المحكمة العسكرية، نستند إلى بعض بنود أصول المحاكمة أمام القضاء العسكري:
تصدر المحاكم العسكرية أحكامها على أساس لائحة أسئلة مطبوعة تتعلق بوقائع الجريمة، وظروف التشديد، والأعذار المحلة، والظروف المخففة التي يجيب عليها قضاة المحكمة بشكل جد موجز.
وبالنظر إلى إجراءات المحاكمة نلاحظ انها ذات طابع استثنائي، فالمحكمة معفية من تعليل قراراتها وتصدر الأحكام بمجرد اختتام الجلسة.
تطبّق المحاكم العسكرية قانون أصول المحاكمات الجزائية إلى جانب قانون القضاء العسكري الذي تتناقض بعض أحكامه مع القانون الأوّل.
إنّ إجراءات المحاكمة أمام المحاكم العسكرية لا تخضع لرقابة القضاء العدلي.
إنّ الاختصاص المقرّر للمحاكم العسكرية بالنظر في الفعل يشكل “تهديداً لأمن الدولة” أو “التحريض على الاقتتال” يمنحها السلطة بمحاكمة مدنيين لمجرّد أنّ المدعي العام العسكري قد ادّعى عليهم بهذه الجرائم.
نستنتج إذاً أن موضوع المحكمة العسكرية وصلاحيتها واختصاصها يعتبر موضوعاً يشوبه عدم الوضوح ويترك مجالاً واسعاً للتأويل.. وقد إعتبر نقيب المحامين السابق المحامي ميشال اليان أن المحكمة العسكرية هي هيئة استثنائية وليست قضائية بحتة، يحكمها عمداء عسكريون وليسوا قضاة ولا يملكون الخبرة الكافية والكفاءة المهنية القضائية اللازمة لتكون احكامهم مبرمة وغير قابلة للتمييز، مضيفاً دعوته لكافة هيئات المجتمع الحر اللبناني للوقوف يداً واحدة بوجه ما سماه "جريمة حكم المحكمة العسكرية" والمطالبة بالغائها!
لا بد من إعادة النظر بهذه المحكمة وبكل المشاكل وعلامات الاستفهام التي تحيط بها وبعملها ونزاهتها، إضافةً إلى الجسم القضائي بأكمله.
فقد كانت أياماً سوداء تحكم أروقة قصور العدل في لبنان، محكومةً من امنيين ومأمورين بعثيين، ما زالوا حتى يومنا هذا يتحكمون بمصير قضايا العدل. ونستذكر من هذه الملفات المفبركة والمعلبة، تلك التي ألصقت بالدكتور جعجع وسلسلة المحاكمات الباطلة وغير العادلة التي طالت شبابنا وشاباتنا زوراً وتعسفاً!!
فتح ملف المحكمة العسكرية والمطلوب الاّ يقفل قبل تغيير الواقع، وقبل أن يكرس الاستثناء قاعدةُ، مع العلم، وبرأي شخصي، أن هذه الأحكام ستكون بداية إقفال ما تبقى من رواسب أوساخ الأسد في لبنان إلى غير رجعة، حيث يغرق هو الآن في ما صنعت يداه.. وإذا كان للظالم يوم، فللحق والحقيقة ألف يوم ويوم!