ممسكًا حقائبه بيده، غير آبه بالفضَّة والسيَّارات والحرس والخدم، نزل من الطَّائرة... أتراه يدري أنَّ كلَّ خطوة خطاها خطَّ بها تاريخ عالم يولد مع كلِّ فجر من رحم المعاناة ويدفن عند كلِّ مساء في تراب العولمة الفاسقة؟ أتراه يدري أنَّ الدُّموع التِّي ذرفها الأميركيُّون، والتِّي سبقهم على ذرفها الكوبيُون، هي دموع المرأة الزَّانية التِّي بلَّلت أقدام الرَّب بدموع توبتها؟ فغسلوا بدموعهم جرائم أنظمتهم المستترة تحت رداء السِّلم والخوف على مصلحة الآخر... أتراه يدري أنَّنا ننتظره، في المأرب الثَّاني من القارة الأميركيَّة، وعيوننا تحسد عيون من رأى طيفه، طيف رجل السَّلام الجلل، طيف بابا العالم... بابا الفقراء؟!
تتميَّز زيارة البابا فرنسيس إلى القارة الأميركيَّة بأربع محطَّات رئيسيَّة، ألا وهي: زيارة البيت الأبيض وإلقاء خطاب أمام الكونغرس إضافة إلى إلقاء خطاب أمام الجمعيَّة العامَّة للأمم المتَّحدة وأخيرًا الزِّيارة إلى فيلادلفيا. خلال المحطَّة الأولى، استُقبل البابا استقبالا رفيع المستوى في البيت الأبيض حيث التقى الرَّئيس باراك أوباما وعقيلته ميشال متوجِّها بكلمة شكر تضمَّنت دعوة صادقة إلى بناء مجتمع سليم وصحِّي بعيدًا عن أشكال التَّمييز. تجدر الإشارة إلى أنَّ البابا تنقَّل في الشَّوارع الأميركيَّة بواسطة "البابا موبيل" ملقيا التحيَّة على المارَّة، بيد أنَّ الحادثة التِّي ألقى عليها الإعلام الضَّوء هي قصَّة الفتاة الصَّغيرة التِّي اجتازت القوى الأمنيَّة لتقترب من الحبر الأعظم وتسلِّمه رسالة وقميصًا ملونة. كذلك، تمكَّن الإعلام فيما بعد من الحصول على مضمون الرِّسالة حيث دعت الفتاة، وهي ابنة مهاجر غير شرعيّ، البابا إلى طرح موضوع المهاجرين غير الشَّرعين والمساهمة في حلِّه.
بعد زيارة البيت الأبيض، انتقل البابا إلى الكونغرس حيث احتشد أكثر من 500 نائب وسيناتور لاستقبال قداسته. فألقى البابا، الذِّي دُعي إلى الكونغرس كضيف شرف، كلمة تناول فيها موضوع التعصُّب الدِّينيّ نابذًا جميع أشكاله. كذلك، تطرَّق إلى أزمة اللاجئين داعيًا إلى معالجتها كونها أزمة لم يشهد العالم مثيلا لها منذ الحرب العالميَّة الثَّانية. من ناحية أخرى، حثَّ البابا الدُّول على إلغاء عقوبة الإعدام بشكل نهائيّ كما أبدى فرحه إزاء التقدُّم الحاصل في الحوار الكوبيّ- الأميركيّ. من الكونغرس إلى نيويورك، تحديدًا إلى المقرّ الرئيسي للجمعيَّة العامَّة للأمم المتحَّدة، انتقل الحبر الأعظم. هناك، توجَّه فرنسيس، كما يحبّ أن تتمَّ مناداته، إلى زعماء الدُّول في خطاب أقلّ ما يُقال عنه تاريخيّ. في خطابه، شدَّد البابا على ضرورة حماية البيئة خصوصًا من مخاطر التبدُّل المناخيّ. كذلك، دعا إلى حماية الأقليَّات الدِّينيَّة التِّي تتعرَّض للتنكيل والقتل في العراق وسوريا وغيرها. وكان لأهداف التَّنمية المستدامة محطَّة في خطاب البابا الذِّي دعا إلى بناء عالم خال من الأسلحة النوويَّة متطرِّقا بذلك إلى الإتِّفاق النوويّ بين إيران والولايات المتَّحدة.
أخيرًا، رست سفينة البابا في فيلادلفيا حيث يُعقد الِّلقاء العالميّ الثَّامن للعائلات. هناك، تحدَّث البابا عن أهميَّة العائلة فتحدَّث ممازحا عن الخلافات العائليَّة، مسلِّطا الضَّوء على المشاكل التِّي تعترض الزَّوجين. كذلك، وأثناء جولته، نزل البابا من سيَّارة "الفيات" الصَّغيرة ليقِّبل فتى مشلولا ويصلِّي من أجله.
من أراد أن يكون الأوَّل بينكم، فليكن الأخير... بابا فرنسيس، منحبَّك!