استطاع لبنان، حتَّى اليوم، أن ينجح في تخطِّي اضطرابات وانتكاسات كبيرة، أهمُّها الأزمة الاقتصاديَّة العالميَّة. لكن، ومع استمرار الحرب السُّورية الَّتي بدأت منذ خمسة أعوام، لا يزال لبنان البلد الأكثر عرضة وتأثُّرًا بتداعياتها مقارنةً بالدول المجاورة، وقد بدأت هذه التّداعيات تظهر على مختلف الأصعدة، خصوصًا على الصَّعيد الاقتصادي. فلبنان، وبسبب تشريع حدوده، يستضيف اليوم 1.5 مليون لاجىء سوري بشكلٍ غير منظَّم، عددٌ قابل للارتفاع إذا لم تتبنَّ الدَّولة الُّلبنانيَّة خطَّة طوارىء وسياسة واضحة للحدِّ من هذا النُّزوح الَّذي قد يشكِّل خطرًا وجوديًّا على لبنان.
تعاطفت الحكومة الُّلبنانيَّة مع قضيَّة النَّازحين السُّوريِّين، فاعتمدت سياسة الحدود المفتوحة لينزح السُّوريُّون إلى مختلف المناطق الُّلبنانيَّة، "إذ لطالما اشتهر لبنان بحسن الضِّيافة وصدره الرَّحب". ولكن ما لم يكن في الحسبان هو مدى خطورة هذه الأزمة وامتدادها مع الوقت... لم يخطر في بال أحد أنَّ هذه الأعداد الهائلة من النَّازحين ستتحوَّل إلى أزمة حقيقيَّة كارثيَّة على النِّظام الاقتصادي الُّلبناني! فالمسؤولون خافوا من أن يُتَّهموا بالعنصريَّة إذا لم يستقبلوا هؤلاء النَّازحين، بدل التَّفكير بماذا سيحلُّ بشعبهم واقتصادهم ومجتمعهم على المدى الطَّويل.
طفح كيل معظم الُّلبنانيِّين الَّذين يدفعون أثمان باهظة نتيجة السِّياسة الَّتي تبنَّتها الدَّولة في بداية أزمة النُّزوح، فأصبح السُّوريُّون يشكِّلون ضغطًا هائلًا على مختلف القطاعات، ويتوقَّع أن تتَّسع مكامن الفقر في لبنان. هذا ودفعت الأزمة ثلث الشَّعب الُّلبناني إلى الوقوع تحت خطِّ الفقر،إذ يعيش مليون لبناني اليوم تحت خطّ الفقر نتيجة قيام معظم أرباب العمل بتوظيف السُّوريِّين بدل الُّلبنانيين، لأنَّ النَّازح يقبل أن يتلقَّى أجرًا منخفضًا. هذا كلُّه لنقول أنَّ معدَّل البطالة، الَّذي عانى منه لبنان قبل أزمة النُّزوح، سيرتفع أكثر فأكثر في سوق العمل. في ظلِّ هذه الأحداث، لم يبقَ أمام الُّلبنانيين عامَّة، والشَّباب ذو الكفاءات العالية أو المحدودة خاصَّة، سوى الهجرة الَّتي أصبحت ملاذهم الآمن ليؤمِّنوا مستقبلهم. فهم يعتبرون أنَّ أمنهم الاقتصادي تزعزع بسبب المنافسة غير المنصفة وغير الشَّرعيَّة الَّتي يتعرّضون لها في بلدهم.
بالإضافة إلى ذلك وتزامنًا مع النُّزوح السُّوري إلى لبنان، انخفض معدَّل النّمو الاقتصادي الحقيقي في إجمالي النَّاتج المحلي ما أدَّى إلى خسائر كبيرة في النَّاتج المحلي تقدَّر بمليارات الدُّولارات. ولوحظ أيضًا تراجعٌ كبيرٌ في الاستثمارات الأجنبيَّة والحركة السِّياحيَّة خلال الخمسة أعوام الأخيرة تأثُّرًا بالأزمة السوريَّة ما أصاب لبنان بعجزٍ كبير في القدرة الاستيعابيَّة للبنى التَّحتيَّة وخفَّض إمكانيَّة الحصول على الخدمات العامَّة من صحَّةٍ ونقلٍ وتعليمٍ أو أدَّى حتَّى إلى تدنِّي نوعيَّة الخدمات المتوفِّرة ما سيضاعف العجز في الموازنة العامَّة.
أمام جميع هذه الخسائر الاقتصاديَّة، لا تزال الدَّولة الُّلبنانيَّة وللأسف عاجزة عن اتِّخاذ قرار حاسم بشأن هذه الأزمة، إذ إنَّ الحسابات السِّياسيَّة تمنعها من ذلك، لتضحي غير آبهة بشعبها المسكين الَّذي يموت موتًا سريريًّا.
لكن ووسط هذا التَّشاؤم الظَّاهر، يرى البعض أنَّ لا بدَّ من ظهور نتائج إيجابيَّة من النُّزوح السوري إلى لبنان، وإن كانت محدودة، كدخول مشاريع سوريَّة المنشأ إلى لبنان وتطويرها ما يحرِّك تلقائيًّا العجلة الاقتصاديَّة. ومع نزوح الطَّبقة الغنيَّة إلى الدَّاخل الُّلبناني، لوحظ أنَّ هناك تحرُّك إيجابي في سوق العقارات أدَّى إلى زيادة الطَّلب، كما وحرَّكت هذه الطبقة الحركة السياحيَّة في لبنان ولو بشكل خجول. كذلك، لجأ عدد كبير من السوريِّين، بخاصَّة أصحاب المصالح الكبيرة أو المتوسِّطة المتضرِّرين من الأزمة السُّوريَّة، إلى لبنان لإنشاء مصالح خاصَّة بهم وتوسيعها وتطويرها، ما قد يؤدِّي إلى خلق فرص عمل جديدة. ويرى الخبراء أنَّ عند انتهاء الحرب في سوريا، سيسفيد لبنان بشكل كبير من عمليَّة إعادة الإعمار. إضافةً إلى ذلك، تؤدِّي التحويلات الماليَّة من سوريا إلى لبنان والعكس إلى ارتفاع السُّيولة في السُّوق الماليَّة الُّلبنانيَّة.
على الرُّغم من فشل الحكومة الُّلبنانيَّة خلال الأعوام الخمسة الماضية في إيجاد حلول جذريَّة وملائمة للحدِّ من النُّزوح السُّوري إلى لبنان، إلَّا أنَّ العهد الجديد يشكِّل بارقة أمل تلوح في الأفق، من خلال مطالبة جميع الجهات المعنيَّة بالتَّكاتف والعمل على تأليف حكومة جديدة قادرة على انتشال لبنان والُّلبنانيِّين من جميع هذه الانتكاسات، تاركةً حساباتها السياسيَّة ومصالحها الشخصيَّة، ولو لمرَّة، جانبًا!