ماهيَّة العلمنة
العلمنة، الشِّغل الشَّاغل للبشريَّة والعالم، خصوصًا الجزء الغربي منه، منذ حوالى القرنين ونيِّف، مصطلح يعني عدم انحياز الدَّولة أو السُّلطة السِّياسيَّة الزَّمنيَّة إلى أيِّ عقيدة، وعدم ارتباطها لا شكليًّا ولا عضويًّا بأيِّ دينٍ كان. وبالتَّالي، تكون العلمنة عمليًّا هي فصل الدِّين عن الدَّولة.
لمحة تاريخيَّة
لم يكن ظهور العلمنة وليدة لحظة تاريخيَّة محدَّدة، ولم يكن أيضًا بالصدفة أو عن طريق الخطأ، ولم يكن ردَّة فعل عشوائيَّة ضد الطَّبقة السِّياسيَّة - الدِّينيَّة في حينه. بل على العكس، كان نتيجة طبيعيَّة لاستبداد السُّلطة الدِّينيَّة بالمال والعباد على السَّواء. بالإضافة إلى أنَّ مبادئ العلمنة تكوَّنت أفكارها تباعًا من قبل الفلاسفة والمفكِّرين. إذًا، إنَّ هذه النَّظرة لغد أفضل مختلف كان يجري البحث عنها وكانت تتبلور شيئًا فشيئًا منتظرةً الَّلحظة التَّاريخيَّة والفرصة المؤاتية للظهور علنًا. فكانت الشَّرارة سنة 1789 في فرنسا. هذا الانقلاب الدَّموي العنيف على كلِّ ما كان سائدًا في العصور الوسطى، وخصوصًا على الكنيسة الكاثوليكيَّة الَّتي كانت تمرُّ هي أيضًا في أكثر عصورها سوادًا واستبدادًا وديكتاتوريَّةً. فهذه الحركة الَّتي كان شعارها "حريَّة، أخوَّة، مساواة" ودعوتها لإيجاد نظام سياسيّ مستقل قائم بنفسه هو ما سميَّ لاحقًا "بالثورة الفرنسيَّة".
تطوُّرها
ومنذ ذلك الحين ما لبثت العلمنة تتحوَّل وتتطوَّر وتتأقلم مع الأزمنة والأمكنة حتَّى وصلت إلى ما هي عليه في أيَّامنا هذه. فمنذ الثَّورة الفرنسيَّة وعلى مدى قرن ونيِّف، لم تكن العلمنة قانونًا ولم يتم تطبيقها رسميًّا حتَّى قام المشرِّع الفرنسي سنة 1905 بسنِّ أوَّل نصّ ينظِّمها ويحدِّد نطاق عملها، وهو ما عرف لاحقًا بـ"قانون الفصل". نشير إلى أنَّ مصطلح "العلمنة" لم يكن مستخدمًا سنة 1789 ولا سنة 1905 إنَّما ظهر للمرَّة الأولى في القانون الصَّادر بتاريخ 15 آذار 2005.
ظهرت العلمنة في مجتمع غربيٍّ مسيحيّ التَّاريخ والأصل والهوى. وحتَّى ولو أنَّ العلمنة وجَّهت أصابع إتِّهامها إلى الدِّين المسيحي لكنَّ المبادئ الَّتي تدعو إليها ليست إلَّا المبادئ الَّتي روَّج لها الدِّين المسيحي بحدِّ ذاته، إن كان الانفتاح على الآخر أو عدم التَّفرقة بين الَّناس لا على أساس الطبقات ولا الَّلون ولا الجنس ولا العرق ولا الأصل ولا الجنسيَّة. لذلك، فإنَّ الكثيرين من المفكِّرين يصفون ويرمزون إلى العلمنة على أنَّها "وردة تمَّ قطفها"، بمعنى آخر إنَّها وردة جميلة وزهيَّة ورائحتها طيِّبة أي أنَّ مبادئها خالدة وعظيمة ونبيلة. لكنَّ هذه الوردة معزولة عن المصدر الَّذي أعطاها الحياة لأنَّها منقطعة عن جذورها، الجذور المسيحيَّة. وباختصار، أخذت العلمنة ما في المسيحيَّة من مبادئ ونسبته للثورة. وما يزكِّي هذه الواقعة مقولة أنَّ المسيح هو "العلمانيّ الأوَّل" لأنَّه دعى للعلمنة عبر قوله: "أعطوا ما لقيصر لقيصر وما للله للله"، وبذلك يكون الفصل بين الدِّين والدَّولة قائمًا.
بعض الإشكاليَّات
إستنادًا إلى كلِّ ما تقدَّم وسبق ذكره، هناك الكثير من الأسئلة الَّتي يجب أن نتطرَّق إليها ومنها: ما علاقة العلمنة بالعولمة؟ وإذا كانت العلمنة قابلة للتطبيق في بلدان الغرب ذات الطَّابع المسيحي، هل يمكن تطبيقها في بلداننا الشَّرقيَّة المعروفة بتنوُّع طوائفها؟ هل يمكن للدين الإسلامي أن يتكامل مع العلمنة أسوةً بالدين المسيحي، أم أن صراعًا سينشأ بينهما حتَّى ينتصر أحدهما على الآخر؟ وأخيرًا، هل العلمنة في تقهقر اليوم؟ وما هو المنحى السَّائد في العالم حاليًّا؟
العلمنة والعولمة
العلمنة، لقد سبق وشرحنا معناها. أمَّا العولمة فهي تجسِّد كلَّ هذا التطوُّر، في مجالات التِّكنولوجيا والصِّناعة والإنترنت والاتِّصالات والمواصلات، الَّذي حوَّل العالم إلى قرية صغيرة حيث يمكننا التنقُّل ونقل المعلومات من مكان إلى آخر بسرعة وسهولة. لقد أزالت العولمة الحدود الجغرافيَّة والتاريخيَّة بين البلدان. إنَّها كالريح الهوجاء العاصفة الَّتي تهبُّ من كلِّ الاتِّجاهات فتحمل معها رياح التَّغيير الزاخرة بالحضارات والثَّقافات. هذا وجعلت العولمة شعار العصر "المنافسة والتحدِّي والمزاحمة" إن كان بين الدُّول، الشَّركات، المؤسَّسات، الأشخاص، العقائد، القوانين، الأفكار...
بالتالي، العلمنة والعولمة مصطلحان مختلفان تمامًا، الأولى هي نظام دولة، أمَّا الثَّانية فهي واقع العالم اليوم. يمكن أن نقول أنَّ العلاقة بينهما هي بمثابة أداة، ومستخدِم لهذه الأداة، إذ يصحُّ القول أنَّ العلمنة تنتشر عبر العولمة وتنشر بذور مبادئها في شتَّى الأنحاء محاولةً استقطاب الأنظار والنفوس لعلَّها تبهر وتضمُّ إلى معسكرها وافدين جدد يغنونها ويزيدونها شرعيَّة دوليَّة ومجدًا تاريخيًّا. ومن يدري إن كان أحد أهدافها أن يقال عنها يومًا: "هذا هو الدِّين العلماني وهؤلاء هم مؤيدوها العلمانيُّون"!
العلمنة والأديان وما علاقتها بالإسلام خصوصًا
إلى حدِّ اليوم، نشأت أغلبيَّة الأنظمة العلمانيَّة في بلدان ذو وجه مسيحي أو في تلك الَّتي كانت تحت انتدابها. المثل الوحيد الاستثنائي هو الدَّولة التركيَّة مع "أتاتورك"، بعد انهيار السُّلطنة العثمانيَّة، والَّذي فرض العلمنة على الأتراك. لكن، وبالرغم من مرور حوالى قرن على علمنة تركيا إلَّا أنَّنا نشهد اليوم على أسلمة النِّظام من جديد وذلك مع أردوغان. إنَّ هذه التَّجربة إذًا في بلد إسلاميّ باءت بالفشل. الأسئلة كثيرةٌ ومتنوِّعة، لكنَّ الأجوبة والحلول لهذه المعضلة محدودة ومعروفة!
العقيدة المسيحية تتضمن الزهد بالعالم وعدم التعلق لا بالماديات ولا بالسلطة بالإضافة إلى وضعها أسس علاقة الإنسان بربه بدون التطرق لأي تنظيم لدولة محتمل. أمّا فيما يخص العقيدة الإسلامية فإن الأمر مختلف، كون الإسلام ليس بدين إيماني بحت، إنما مهّد لنشأت دولة سياسية متكاملة الأطراف. وعليه، الإسلام هو دينٌ ودولة، وبذلك تنتفي الحاجة لأي نظام آخر.
إذا كانت العلمنة تدعو إلى تطبيق نظام أحوال شخصيَّة مدنيّ، فإنَّ الإسلام يدعو إلى تطبيق قواعد الشَّريعة. إذا أرادت العلمانيَّة وضع قانون للعقوبات، فإنَّ الشَّريعة تتضمَّن قانونًا للعقوبات الَّتي هي الحدود. إذا كانت العلمنة تسمح بالفائدة في العمل المصرفيّ، فإنَّ الشَّريعة حرَّمتها. إذا كانت العلمنة تدعو إلى حريَّة التِّجارة والتِّجارة الحرَّة، فإنَّ الشَّريعة نظَّمتها فحلَّلت وحرَّمت ما يتآلف مع مبادئها.
إنَّ العلمنة أعادت المسيحيَّة إلى مرتعها ومكانها الطَّبيعي والصَّحيح وحدَّتها ضمن نطاق رسالتها. لكنَّ هذا الدور لا حاجة له في الإسلام. فإذا أردنا تطبيق العلمنة في البلدان الإسلاميَّة، استوجب علينا عدم تطبيق الإسلام السِّياسيّ، وهذا لم ولن ينجح كون لا انتقائيَّة في تطبيق أمور الدِّين. ومن هنا، فشلت العلمنة في تركيا وستفشل في كلِّ مكان تواجد فيه مسلمون مؤمنون يريدون لعقيدتهم أن تسيِّر حياتهم.
نرى اليوم في أوروبا جميع هذه المشاكل، خصوصًا مع توافد الَّلاجئيين. فالمجتمع الأوروبيّ كان مجتمعًا من لونٍ واحدٍ، أمَّا اليوم فلا! بدأت المطالب والمشاكل تظهر. ففي بريطانيا نرى دوريًّا في شوارع لندن مظاهرات تطالب بتطبيق الشَّريعة، ونرى أيضًا في أماكن عديدة مجموعات بدأت تطبيق الشَّريعة في ظلِّ عدم قدرة الدَّولة على التصدِّي لها، لأنَّها إرادة الشَّعب القاطن هناك، أي المسلمون. هذا وبدأت هذه المطالب بالظهور علنًا في فرنسا وألمانيا. إذًا، إنَّ العلمنة والإسلام لا يتجانسان.
نشير في سياق هذا البحث إلى أنَّ التَّاريخ لقَّننا أنَّ ما من "إيديولوجية" من صنع البشر أو منسوبة لبشر استمرَّت على مدى الدُّهور والأيَّام. فهذه الاستمراريَّة حكر لكلِّ ما هو منسوب للله أو مرتبط به. لذلك، الإسلام هو المنتصر حتمًا، والغد لناظره قريب.
تقهقر العلمنة
العلمنة تتقهقر في عرينها وداخل بيئتها، فالاستمرار ليس حليفًا لها. إنَّ صعود الإسلام في العالم اليوم، تواكبه نزعة عقائديَّة، والعودة إلى الجذور هي المبتغى!
كلُّ هذا يدلُّ على أنَّ النَّقمة كبيرة على هذه العلمنة الَّتي جعلت من جميع النَّاس سواسية من دون لون يميِّزهم أو جنس يفرِّقهم أو عقيدة تخلفهم. فكأنَّ الإنسان يسعى إلى التَّمايز والاختلاف... الدِّين، الَّلون، الجنس، العرق، الُّلغة، الأصل، الجنسيَّة والبيئة... جميعها عناصر تكوِّن هويَّة الإنسان وتجعله فريدًا!
العولمة، ضربت الإنسان في صميمه وأفقدته هويَّته وروحه. اليوم، هدف الإنسان واحد، وهو "الانتقام" ليستعيد ذاته المسلوبة منه. "فلا عجب أن ينتصر ترامب في الولايات المتَّحدة الأميركيَّة وأن تعود روسيا إلى أمجادها! ولا عجب أيضًا أن يصبح اليمين المتطرِّف في فرنسا بهذا الحجم ولا أن تخرج بريطانيا من الاتِّحاد الأوروبي".
الخاتمة
إنَّنا نشهد على شروق العقائد والأديان. وأمام هذا المنحى العالميّ، لا يمكن للعلمنة أن تستمر إلَّا إذا أصبحت عقيدة ودين، وهو منحى يجري العمل عليه حاليًّا ويعرف بـ"الرُّوح العلمانيَّة"، ومن دونه ستزول العلمنة زوالًا محتَّمًا كسابقتها الشيوعيَّة، الَّتي تتشارك معها الكثير من نقاط التلاقي. فكلاهما فصل الدِّين عن الدَّولة، الأولى (العلمنة) وضعته في خانة الحياة والقناعة الشَّخصيَّة، أمَّا الثَّانية (الشيوعيَّة) ألغته ومنعته وحرَّمته. الأولى وضعت الجميع على قدم المساواة من دون تمايز أو تمييز، والثَّانية جعلت من جميع الناس عمَّالًا لها لا فرق بينهم. كلاهما وضعتا القانون أساسًا للنظام وألغيتا وجود الله... جميع هذه الأنظمة الشموليَّة إما سقطت، أو أنَّ سقوطها حتميٌّ لا محالى.